الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الأخلاق والسياسة.. هل الغاية تسوّغ الوسيلة ؟

بواسطة azzaman

الأخلاق والسياسة.. هل الغاية تسوّغ الوسيلة ؟

علاء العاني

 

بينما كنتُ زائرا لصديق يحتفي بتفوّق ولده دراسيًا ومهنياً، عبدالله وهو مهندس كيميائي يدير مصنعاً متميزاً على مستوى المنطقة، فوجئت بمستواه الثقافي العالي ووعيه العميق بما يجري حوله محليا وعربيا ودوليا، في وقت نلحظ فيه أن كثيرا من أبناء جيله ينصرفون إلى المتع والملاذ وأحيانا إلى التفاهات في الاهتمامات.

غير أن ما شدّني حقا، ودفعني إلى التفكير في موضوع بالغ الحساسية، هو أن أسمع شاباً في مقتبل العمر يستشهد بما قرأه في كتاب «الأمير» لنيكولو ميكافيلي، ويناقش بإسهاب أفكارا ورؤى تعود إلى مفكر مضى على كتابه ما يقرب من خمسة قرون، محاولًا إسقاطها على واقعنا السياسي المعاصر، كما فعل كثيرون من جيلنا في مراحل سابقة.

وليس من الإنصاف القول إن ميكافيلي كان مفكراً سيئاً بالمطلق، فقد كتب أفكاره في سياق تاريخي أوروبي خاص، كانت فيه إيطاليا ممزقة بين الدويلات والصراعات، وسعى من خلال كتابه إلى تقديم وصف عملي لآليات الحكم وتوحيد الدولة، وقدّمه إلى الأمير لورنزو دي ميديتشي حاكم فلورنسا آنذاك. غير أن الإشكالية الحقيقية تكمن في المقولة التي اشتهر بها، والتي فُهمت  على أنها قاعدة سياسية عامة: «الغاية تسوغ الوسيلة»، وما رافقها من دعوة صريحة أو ضمنية إلى فصل السياسة عن منظومة الأخلاق.

هذه الفكرة، التي تحولت

 مع الزمن إلى ذريعة جاهزة، تبناها كثير من الحكام والأنظمة لأنها تؤمّن لهم السيطرة والبقاء في مواقع السلطة، باستخدام كل الوسائل الممكنة، حتى وإن أدت إلى قمع الشعوب، أو تدمير الدول، أو ارتكاب انتهاكات جسيمة بحق الإنسان. ومع تكرار هذا النموذج، ترسّخت لدى الأجيال قناعة مفادها أن السياسة بطبيعتها قذرة، وأن الحرب قذرة، وأن قتل الأسير مبرر، واحتلال البلدان وإذلال شعوبها أمر مشروع متى ما خدم مصالح الأقوياء. وهكذا ساد في الفكر السياسي الغربي الحديث تصور يفصل بين السياسة والأخلاق، ويقدّم المنفعة على القيم، والقوة على العدالة. غير أن هذا التصور ليس حقيقة مطلقة، ولا قانونا إنسانيا ثابتاً، بل هو نتاج ظرف تاريخي وفلسفي محدد، ولا يمكن تعميمه على تجارب الأمم كافة.

في المقابل، يقدّم الفكر العربي والإسلامي تصورا مختلفا للسياسة، يقوم على ربط السلطة بالأخلاق، والقوة بالمسؤولية، والمصلحة العامة بالقيم. فمنذ نزول الوحي على نبينا الأكرم محمد (ص)، وُضعت أسس الحكم على العدل، والمساواة، والشورى، وصون الكرامة الإنسانية، واحترام العهود، وتحريم الظلم، حتى في أوقات الحرب. ولم تكن السياسة في هذا التصور مجالًا منفصلًا عن الأخلاق، بل امتدادًا لها في إدارة شؤون المجتمع والدولة.

وقد تجسّد هذا المفهوم في سيرة النبي (ص) ، وفي نهج الخلفاء الراشدين، حيث ارتبطت شرعية الحكم بالعدل، وخضعت السلطة للمساءلة الأخلاقية، وقُيّدت المصلحة العامة بحدود القيم. وهو ما عُرف في تراثنا بمفهوم السياسة الشرعية، التي لا تبرر الوسائل المحرّمة مهما بدت الغايات مغرية.

وإذا ما انتقلنا إلى واقعنا العراقي، فإن ما يجري اليوم يعكس – مع الأسف – ابتعادًا واضحًا عن ربط السياسة بمنظومة الأخلاق والقيم، وهو ما أفضى إلى تفشي مظاهر خطيرة، من فسادٍ مالي وإداري، وانتشار المخدرات، وتصاعد الخطاب الطائفي والعرقي، وتوسّع دوائر السجون والمعتقلات، فضلا عن تكريس الفشل عبر وضع غير الأكفاء في مواقع القرار، وتهميش الشباب الواعي وإبعاده عن المشاركة الحقيقية في بناء الدولة. إن هذا المسار لا يعبّر عن حقيقة العراق ولا عن تاريخه، بل يمثل قطيعة مؤلمة مع إرثه الحضاري العريق الممتد لآلاف السنين قبل الميلاد، حين كان العراق منبعاً للتشريع والمعرفة والتنظيم. ومن هنا يبرز دور الشباب، بوصفهم أمل الحاضر وصناع المستقبل، في استعادة المعنى الأخلاقي للسياسة، وإعادة العراق إلى موقعه الطبيعي دولة عادلة تحكمها القيم قبل المصالح، والإنسان قبل السلطة.

إن أخطر ما يواجه المجتمعات اليوم ليس تعقيد السياسة، بل الاستسلام لفكرة فسادها بوصفه أمرا طبيعيا لا بديل عنه. فعندما تُقدَّم مقولة «الغاية تبرر الوسيلة» على أنها قانون أبدي، يُختزل الإنسان إلى أداة، وتُختصر الأوطان إلى مصالح عابرة، وتُفرَّغ القيم من مضمونها. لقد كانت مقولات ميكافيلي انعكاسًا لظرف تاريخي خاص، ولا يجوز تحويلها إلى مرجعية أخلاقية تحكم حاضر الشعوب ومستقبلها.

فالتجارب القديمة والحديثة تؤكد أن السياسة حين تنفصل عن الأخلاق تتحول إلى سلطة عمياء، وحين ترتبط بالقيم تصبح فعلاً مسؤولًا يوازن بين القوة والعدل، والمصلحة والإنسان.

إن الرهان الحقيقي اليوم هو على وعي الأجيال الشابة، لا بتجميل الواقع ولا بتبرير انحرافاته، بل بإقناعها بأن السياسة ليست قدراً فاسداً، وأن الحكم يمكن أن يكون أخلاقيا، وأن الأوطان لا تُبنى بالوسائل المنحرفة مهما بدت نتائجها آنية، بل بالعدل، والمسؤولية، واحترام الكرامة الإنسانية. تلك ليست دعوة إلى مثالية حالمة، بل تأكيد لحقيقة تاريخية مفادها أن السياسة بلا أخلاق طريق قصير إلى الخراب، وأن القيم وحدها قادرة على منح السلطة معناها الإنساني وشرعيتها الحقيقية

 

 

 

 


مشاهدات 36
الكاتب علاء العاني
أضيف 2025/12/27 - 12:29 AM
آخر تحديث 2025/12/27 - 1:50 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 115 الشهر 19773 الكلي 13003678
الوقت الآن
السبت 2025/12/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير