الغشّ السياسي .. صناعة الوهم في التجربة العراقية
كامل الدليمي
في العراق، حيث تتزاحم العشرات من المشاريع السياسية والشعارات البراقة، لم يعد المواطن قادراً على تمييز الحقيقي من الوهم. كل حزب يرفع راية الوطنية، وكل زعيم يدّعي امتلاك الحل السحري، وكل مسؤول يصف نفسه بأنه “الأقدر” و“الأصلح” لقيادة الدولة، بينما الواقع يشي بأن المشهد برمّته لا يجتمع تحت أي عنوان سوى الغشّ السياسي.
أغلب القوى السياسية تتقن صناعة الخطاب، لكنها تفشل في صناعة الدولة. يتحدّثون عن الإنجازات، لكنّ معظم ما يُقدَّم للمواطن إنما هو من صميم واجبات الدولة وأموالها، ثم يُسوَّق على أنه فضلٌ يُحسب لهذا الحزب أو ذاك. وهكذا يتحول الحق العام إلى منّة شخصية، وتصبح الخدمات الأساسية أوراقاً انتخابية تُشترى بها الولاءات، وكأنّ المواطن مدينٌ للسياسي لأنّه أنجز شارعاً أو رصّف حيّاً أو افتتح مدرسة.
والأدهى من ذلك أن أغلب هؤلاء يفاخرون بأنهم أفضل ممن سبقهم، وأن من سيأتي بعدهم أقل كفاءة منهم. لكنّ الحقيقة المؤلمة أن المناصب تُدار بمنطق المحاصصة الطائفية والقومية والحزبية، لا بمنطق الكفاءة أو المهنية. وعليه، كيف يمكن لمن وصل إلى موقعه بصفقة سياسية أن ينشغل بخدمة شعب؟ وكيف يمكن لمن تحاصره حسابات الطائفة والحزب أن يكون قادراً على اتخاذ قرار وطني خالص؟
صراع تجار
التجربة السياسية في العراق خلال العقدين الماضيين تُعد مثالاً صارخاً على التشوّه المؤسسي. فالمشهد لا يشبه حتى صراع التجار في الأسواق، فالتاجر—مهما كانت مصالحه—يبحث عن استمرارية زبائنه وثقتهم، بينما السياسي في العراق لا يبحث إلا عن تثبيت نفوذه، ولو على حساب خراب الدولة كلها.
لقد أصبح الغش السياسي ظاهرة يومية: وعود انتخابية تتكرر، برامج حكومية لا تُطبَّق، مشاريع تُفتَتح إعلامياً وتُغلق على أرض الواقع، ومسؤولون يتبادلون الاتهامات وكأن كل طرف لا صلة له بما يحدث. وفي وسط هذا الضجيج، يبقى المواطن هو الخاسر الأكبر، يدفع من عمره وكرامته وصوته ثمن صراعات لا تنتهي.
إنّ العراق، بما يملكه من موارد بشرية وطبيعية وتاريخية، يستحق أكثر بكثير من هذه التجارب المكرّرة.
ممارسة سياسية
فالدولة لا تُبنى بالخطابات ولا بالشعارات، بل تُبنى حين يكون المسؤول جزءاً من الحل لا جزءاً من الفساد؛ حين ينتمي للبلد لا للحزب؛ وحين يضع مصلحة المواطن فوق مصلحة الطائفة أو الزعيم.
ولعلّ الخطوة الأولى للخروج من هذا النفق هي الاعتراف بأنّ ما نعيشه ليس ممارسة سياسية طبيعية، بل هو غشّ متواصل ينبغي كشفه ومحاسبته، قبل أن تتوقف عجلة الدولة تماماً .