أبي الغائب الحاضر
حامد عبدالصمد البصري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استذكارات- لأيام من تشرين الأول- 1975
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تألق كئيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذكرى تتغلغل في العظام
تتألق في الدم ..
كأنّها أكوان ...وأكوان
تآزر الأحبّة ..
جذوة استمرارية لحياة أفضل
- هل تتذكّر يا حامد ..؟
استيقظتَ في الصباح
قفزتَ من فراشك كالملسوع
استشعرتَ أنفاسك
رطبة كرياح تموز
أثقل الوجع رأسك
حاولت َالذهاب إلى الكلية ..
لكنّك ترددتَ كثيرا ...
على الرغم من انتهاء
مراسيم العزاء
وتفرّق الكثير من الأقرباء
والكثير ..الكثير
منهم قد عاد إلى عمله
وأنت وحدك ..
تقلّب الكتب ..
تتصفح الأيام
كان اليوم
يوم سبت
وهو أول أيام الأسبوع
والدوام واجب
فقد انتهت الإجازة
كان صباحا حقّاً
لا يشبه
كل الصباحات
جرس باب البيت يقرع
ذهب أخي عبد المعبود إلى الباب
- من في الباب
- أنا عدنان الفضل
فتح أخي الباب
رحّب بالأخ عدنان ، ودعاه للدخول إلى بيتنا
لكن عدنان قال :
جئت على اخي حامد
ليذهب معنا الى الكلية
سيّارتنا ( سيّارة يوسف الندّاف )
مع الطلبة بانتظاره
ولن نغادر حتى يكون معنا
لملمتُ نفسي ، وشظايا روحي المتناثرة
قبّلتُ أمّي العزيزة
نظرتُ في عينيها
فوجدتُ فيهما
ما لا يمكن رؤيته في عيون الأخريات
وخرجتُ ، للذهاب مع زملائي ..وزميلاتي
وأنا أمدّ أصابعي القصيرة
أفرك بها جبهتي الملتهبة..
أفكار ..وخواطر..
تنثال على ذهني
حتى وصلتُ إلى السيّارة ( الباص الخشب)
صعدتُ
وكانت كل الوجوه ، تنضح حزنا ، وألما ً
و كأنّ كل العيون
تتحدّث عن فراق
غربة ، وربّما ندم
فالموت الأهوج ، قد خطف والدي
وسارت السيارة
تأكل الطريق بنهم
حين وصلنا إلى باب الكلية
نزلت ُ بصعوبة
فقد أكلتني الحمّى الشديدة
والصداع النصفي
وكأنّي في جوّ عاصف
كنتُ كالبيت العتيق
الذي يوشك أن ينهار
لولا الأحبّة ....
الأحبّة الذين
استندتُ على أكتافهم
لكي لا أتهاوى...!
-2- في الكلية
ـــــــــــــــ
لم أكن طائراً أحمق
ولا مسافراً غبيّاً
نعم ..ماكنتُ يوماً
أمرّ في دروب الحياة
دون وقفة تأمل
ولم أكن حقّاً
- على الرغم من انشغالاتي -
دون مشاعر
وكثيرون هم الذين يرتاحون
إلى ايلام الانسان المبدع
لأنّه ببساطة تجاوز قدراتهم
إلى مصافٍ أفضل
غير أنّ زميلتي العزيزة....
كانت تزدان وتزدهر حياتها
في كل لحظة بورود جديدة
من ورود أبي الخصيب
واقحوانات من أرض قرانا الجميلة
الحمزة ..السبيليات ....
نهر خوز ... باب سليمان
فجأة
وجدتها تبحث عنّي
تمشي ..وكأنّ في قدميها نار
وتسأل الزملاء :
هل تعرفون أين حامد ..؟
حتى أشارت إليها أحدى الطالبات
– إنّه هناك قرب سور الطابق الثاني
يجلس وحيدا
وأنا كنتُ أحاول ، و أسعى جاهداً
لإعادة تركيب صورة والدي
فقد أحسستُ بريق روحه
يلتمع ..
يتصاعد
ليرسم صورته أمامي
وكأنّني في صحوة جديدة
فجأة .. سمعت صوتها
- اين أنتَ يا حامد كنتُ ابحثُ عنك ..؟
كان لصوتها مذاق النبع الصافي
- أنا هنا كما ترين وحدي
- نعم أراك يا أخي
- ماذا تريدين ..؟
- أريد أن أستبدل حزنك .....!
- بماذا ..وقد فقدتُ والدي ...؟
(تحسّرتْ )
- أعرف يا حامد ..
ولكنّي لا أحبّ الحزن في عينيك
- يا عزيزتي أنا رجل دمّاّع
هي طبيعتي ..
والدموع تضفي معنى ..ومعنى
نظرتْ إلى وجهي
كانت الماسات الخجلى
قد رطّبتْ خدها
راسمة مسيل رجاء
أن أستبدل الحزن المعتّق بابتسامة
- يا حامد أنتَ لستَ رقماً
في حياتنا يسهل مسحه
أنتَ أخي .. صديقي ... زميلي
أنتَ حامد وليس لدينا غيرك
- الف شكر أعرف ذلك ولكن....!
- أرجوك بلا (لكن )
أنتَ من طين أبي الخصيب
وأنا كذلك فلنكن معاً ، طينة واحدة
( مدّتْ لي دفترها )
- لقد كتبتُ المحاضرة كاملة
أعرف أنك لا تستطيع الكتابة
اعطني دفترك ، سأنقلها لك
بكل محبّة وتقدير ....
- الف شكر .. لك كل التقدير ..
أنتِ رائعة بكل الأوقات ..
دمتِ بألف خير
- إذن قم ْمعي
قمتُ معها ..وهي تقول :
- لا تحزن .. فالسفن الشراعية والأبوام
ما تزال في شط العرب
والنخلة التي زرعها
الحاج عبدالصمد والدك
لمّا تزل باسقة
والفضاء أزرق
يميل إلى اللون البنفسج
والبنفسج هو لونك المفضّل
كما هو اللون المحبب لصديقتنا
تلك التي لن تكفَّ عن السير معها
تحت كركرات المطر
وبعد أيّها العزيز
أنتَ جناح الطائر الذي يحلّق بنا
إلى سماء حلوة ومدهشة
ماذا تقول .أليس كذلك ...؟
- أأنا كل هذا ...؟
- نعم وأكثر ...
- شكراً لقد رنّ هاتف القلب
وردّ الجواب ..
أنكِ حقّاً تنبضين صدقاً ، ومحبة
لأجلك ِ، سأستبدل حزني ، بابتسامة صغيرة.
- حسناً يا حامد ، ابتسامتك أكثر نبلاً
من كل براءات أطفال العالم
- الماضي - يا صديقتي -
هو الوسيلة
إلى الفوز بالدهشة واللقاء
بالزمن الجميل
- إذن يا اخي لندخل المحاضرة
واترك الإسراف ، بالرجوع ، إلى الماضي
- شكراً لكِ
ودخلنا معاً إلى قاعة المحاضرة ..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ