الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رحلة البحث عن الهويّة الضائعة.. قراءةٌ في رواية وداعًا أيَّتُها السماء لحامد عبد الصمد


رحلة البحث عن الهويّة الضائعة.. قراءةٌ في رواية وداعًا أيَّتُها السماء لحامد عبد الصمد

إبراهيم رسول

 

روايةٌ هي أقربُ إلى تصنيفها, مذكراتٌ شخصيةٌ, وينطبقُ عليها مصطلح ( الرواية النفسية), لأنَّها حديثٌ أحاديٌ فردانيٌ, يُعبّر من خلالهِ الكاتب عن رحلةِ عذابٍ وجوديٍ, يعيشهُ الإنسان في بُلدانِ القهرِ والجوعِ والحرمانِ والألمِ , وهذه التشكيلةُ الرباعيّة, تجتمعُ في بُلدانِ الجهل والتخلّف, فتنتجُ تضخمًا في كُلِّ شيءٍ إلَّا في إنسانيّة الإنسان و كرامته, وأجدُ أنَّ الكاتبَ نقلنا إلى روايةٍ, تحملُ من الجرأةِ الشيء الكثير, لكنَّها جرأةُ حقيقة وحديثُ نفسٍ صريحٍ, قدْ يكذب الإنسان أو يُبالغ في حديثهِ إلى الناسِ, لكنَّه يصدق حينَ يكون الحديث مع نفسه, وتكمنُ قدرة الإنسان في الصدقِ على قوّةِ شخصيّته وتأثيرهِ على نفسهِ, لأنَّ عالمَ النَّفس, يصعبُ على المرءِ أنْ يتجرّدَ منهُ ويتحلل من قيودهِ المُكبّلة, نقرأُ في هذه الرواية. رحلة البحث عن الذّات الضائعة, والهُويّة الإنسانيّة المفقودة, أو التي وصلتْ مشوّهة إلى الإنسانِ, بفعلِ عواملَ نفسيّة, بدأتْ مُنذُ الصغر واستمرتْ معهُ حتَّى مراحلَ مُتقدمة من عمرهِ, الصدمةُ النفسيّةُ صاحبتهُ وكانتْ هي أكبر مُعوقات الاستقرار الروحيّ الذي كانَ يبحثُ عنه, والجريمة الأولى التي حصلت في مرحلة الطفولة بقيت ماكثة فيه, ولمْ يستطعْ أنْ يتخلصَ مِنها إلَّا حينما اكتشفَ هويّته, وحينَ يضع الكاتب عبارة يختم بها روايته, قد اكتشفها مؤخرًا, هذه العبارة ستبقى هي البلسم الذي غيّرَ حياته من الشقاءِ الوجداني الذي كان يُعاني منه طوال أربعةِ عقودٍ من عمره في صراعٍ حقيقيٍ مؤلمٍ.

هذه الروايةُ تُثبتُ لنا قيمة وجود الإله في حياةِ الإنسان في أيِّ أرضٍ كانَ وفي أيِّ زمانٍ وُجدَ, لأنَّ الفناءَ هو أكثر ما يُقلقُ الإنسان, ولهذا بدأ يبحثُ عن ربٍّ قويٍ, يُخلّدَهُ بعدَ الموت, والحياةُ صعبةٌ ومعقدةٌ وقاسيةٌ, وجبَ أنْ تُخدرَ في مخدرٍ ليستطيعَ الإنسان أنْ يُقاومَها, فهذا ما وجدناهُ في والد شاكر بطل الرواية, الذي كانَ إمامًا تقتدي به الناس في القريةِ, كانَ يتناولُ الحشيش المخدر على الرغمِ من منزلته كرجل دين وفتوى, هذه الروايةُ تكشفُ لنا العالم المضمر, الذي لا نستطيع أنْ نبوحَ به لنتخلصَ من عبء ثقله فينا, وما شاكر في هذه الرواية إلَّا كلّ إنسان يعيشُ أزمةً نفسيةً سببها المجتمع المأزوم والمليء بالعقد النفسية التي نقلها إلى الأفراد.

يبدأُ شاكر رحلته الحياتية وهو يبحثُ عن هويّتهِ الضائعة, التي فقدها في طفولته وهربت منه, غابَ السلام النفسي والبراءة الأولى منه عندما تعرضَ لانتهاك جسده الذي قامَ به عامل الورشة بفعلَتهِ المؤلمة, وسببتْ هذه الفِعلة أنْ يعيشَ البطل صراعًا نفسيًا  قادهُ أنْ يدخلَ المستشفى ليتعالج وبالإكراهِ, ولقسوةِ الجريمة التي تعرض لها البطل, لمْ تغبْ عن عقلهِ وروحهِ, إذ انتقمَ من الذي ظلمه بالناسِ الأقلِّ قوّة, انتقمَ عبرَ أناس لا ذنب لهم, ليرضي نفسه, أصبحَ عنيفًا مع نفسه ومع من يحبّه, وأقسى انتقام, كان انتقامه لنفسه بنفسه! فهنا يُمارسُ عقوبة الفاعل المجرم الذي مارس معه ( الفعل الجنسي القبيح), ومن يومها بدأتْ معاناته حينَ سُلبت منه البراءة الأولى, والفطرة السليمة التي خُلقَ عليها, فتحوّل إلى منتقمٍ جبّارٍ, فالمجتمعُ حوّلَ من إنسانيّتهِ البريئة إلى همجيّة بشريّة, وتحوّلتِ البراءة إلى خبث وسوء نيّة, فغابت إنسانيّته عنه, وجعلته يضيع في خضمِ العالم الواسع.

تبدأُ رحلة البحث عند البطل, حينما قررَ أنْ يكسرَ رغبة والده الذي أرادَ منه أنْ يدرسَ أصول الدين, ورغبته في أنْ يدخلَ كلية الألسن, هذه الرغبة كانتْ بحثُا عن هويّته التي يرغب أنْ يحصلَ عليها, لكن تحققها كانَ يستدعي منهُ, أنْ يواجه المصاعب, فهو ناقدٌ منذُ طفولته, ولوْ يتأمّل القارئ كيفَ لهذا الفتى, أنْ ينتقدَ فعل والدته التي ضيّعت مصير ضرّتها الأولى وأخذت زوجها منها وجعلته حكرًا لها, شاكر ينتقدُ والدته التي دمرّت حياة ضرّتها, فماذا تراه يفعل مع المجتمع الذي فعل معه الأفعال المؤلمة؟

أخذَ البطل شاكر, ينتقمُ من نفسه أولًا ومن كل الذي يحبّونه ثانيًا, بدأت معاناته من لحظة الاعتداء الآثم الذي فعله به صبي الورشة, حينَ حوّل من ملائكيته البريئة الطفولية إلى وحشية همجية حتَّى مع المرأة الوحيدة التي أحبّها وهي الزوجة التي صارت فيما بعد, التي أسمها كونستانس, التي جمعت باسمها وجمالها أجمل ما في الشرق والغرب, هذا الكائن الذي صار عنيفًا, هو ردةُ فعلٍ انتقاميةٍ من المجتمع, لهذا تنقلُ لنا الرواية صوت الإنسان المقهور الذي لا يقوى على أنْ يُعبّرَ عن ألمه وقهرهِ! وهنا تغيب إنسانيته لتحلّ محلّها همجيته الكامنة فيه.

في هذه الرواية يُعرّي الكاتب المجتمع والإنسان, ويكشفُ جوانبًا من الحياة المضمرة التي تجعل من الحياة الظاهرة مصطنعة غير حقيقية, هنا يُمارسُ فعل التعرّي النفسي لا الجسدي فحسب, فلوْ تأمّلنا ألم الفعل وأثر الجريمة في نفسه, حينَ أراد أنْ يعتدي على طفلٍ من أطفال أقربائه لكن في لحظةٍ خوفٍ لا ندم, ترك الفعل, يقول في ذلك:

دخلتُ إلى المرحاضِ, ورحتُ أمارس العادة السرية لتفريغ ما بداخلي من شهوة مريضة, كنت افرك قضيبي وأبكي.. أبكي من قذارتي.. أبكي على ما حدث لي في طفولتي, أبكي لأني لمْ أكن أفضل حالاً ممن امتهنوني وهتكوي عرضي.( الرواية: 157), وفي هذه الكلمة, تتجلى أزمته النفسية بوضوحٍ وجلاءٍ, فهو يُعاني الألم من الفعلة القبيحة التي مُورست به.

تضيعُ الهويّة بضياعِ إنسانية الإنسان وغياب هدف الوجود, والأديانُ تكمن أهميّتها ليست بصحّتها ولكن بحقيقة أثرها على النفسِ, فأهل الأرض إنْ يجدوا دينًا من السماء ابتكروا دينًا من الأرض واعتنقوه, المهمُ أنْ يكونَ هنالك من يلجأون إليه لتفريغ ما بأنفسهم من ألم, وهذا ما حصل مع بطل هذه الرواية, التي بدأت حياته, حينما بدأ يبحث عن هويّته الضائعة التي ضاعت وتلاشت, انتمى لعالمين مختلفين ( مصر, ألمانيا) لكنَّه لم يكن مصريًا كاملاً ولا ألمانيا كاملاً, فهو ضائعٌ لا يعرفُ لأيِّ هويّةٍ ينتمي, لمصر التي هتكت شرفه وسلبت كرامته أم لألمانيا التي كانت تحكي عنه وليس معه, وذلك حينَ صارح واعترف أمام رئيس الجامعة في ألمانيا, بأنَّه لا يريد أنْ يمدحه أحدٌ بقدر ما يريد أنْ يسمعه! غياب هذه الهويّة, جعله يتخبط خبط عشواء في عالمٍ واسعٍ لكنه كانَ ضيًّقا بنفسه الباحثة عن معنى لوجودها.

البحثُ عن هويّته الضائعة في هذا العالم, هو كان أبرز ثيمة ً في هذه الرواية, ولكنَّ الضياعَ لمْ يكن منه, بقدر ما كانَ جريمةً مجتمعيةً معقدة, جعلت منه ضحية لسببها, وبقي ضحية حتَّى التقى بالطفلِ في ألمانيا, يا للمصادفةِ, يا للعجبِ, أنْ يكتشفَ الإنسان هويّته فيما هو موجودٌ أمامه وبين يديه, فهو حينَ تعرّف على الطفل الذي أسمه ( الرب), جعل من البطل شاكر , يستدرك ويتأمّل في الاسم, وفي الحقيقةِ إنَّه كانَ يبحثُ عنه في الاسم, يبحثُ عن معنى وجوده في هذه الدنيا, لهذا تبدو الرواية تحملُ طابعًا نفسيًا واجتماعيًا, حينَ كان المجتمعُ هو الذي يُنقذُ الإنسان من الألم, مجتمع مصر فعل الجريمة وسبب في ضياع إنسانيته وهويّـته, ومجتمع ألمانيا, الذي تمثل هنا في الطفل المدعو ( الرب) الذي وجدَ له هويـّته, فمثّلت الأرض البريئة الطيبة الطفلة ألمانيا, المنقذُ والمخلّص الذي وجدَ فيه ذاته وروحه ونفسه, ومثّلت مصرَ , المجرم الفاعل, والأرض غير البريئة.

في النهايةِ يضعُ لنا الكاتب نهاية مختصرة جدًا, لكنَّها كانت عميقة في معناها ومبناها, من حيثُ أنَّها أعطت للحياةِ قيمة وللوجود معنى, حينَ وجدَ هويّته وذاته, فأخذ بالرجوعِ إلى الذات البريئة الأولى ويسلم الأمر ( لله الرحمن الرحيم), أنْ تنتهيَ الرواية بهذه النهاية التي يشرقُ نور الأمل بالله منها, يعطي دافعًا معنويًا, يُزيلُ كلّ العذاب الذي عايشناه مع الكاتب لأربعةِ عقودٍ من عمرهِ, هذه النهاية هي الأنسب للمتلقي, لأنَّ رحلة الرواية مؤلمة وحزينة, تجعل القارئ يفقد الأملَ بالإله المنقذ من عذاب النفس وضياع الهويّة’ لكن حسنًا فعل الكاتب حين يضع الرب في نهاية الرواية, يتمثّل في ما تمثّل به, طفلٌ بريءٌ, يحملُ الحلّ البسيط في أفعاله وكلماته.

إنَّ رحلةَ البحث عن الهويّةِ الضائعة, هي عمليةٌ وجودية ونفسية وفلسفية واجتماعية, يتعمقُ الإنسان في التفاعل معها كثيرًا حتَّى يصل إلى نهاية قدْ تسر وقدْ لا تسر, لكن المخاطر المتوقعة كثيرة, لأنَّ غياب الهويّة يعني في ضمن ما يعنيه, غياب الذات , وغياب الذات يعني غياب الإنسان, ويغدو كائنًا آليًا لا روح ولا عقل ولا نفسَ, فالبحثُ لمْ يكنْ إلَّا صورة من صور العذاب الوجودي والقلق على المصير, بلْ القلقُ على الوجود الماديّ, فالبطلُ في هذه الرواية, لمْ يستقرْ على علاقة, ولمْ يثبت في عمل, ولمْ يعرف غاية, هذا الضياع كانَ ضياعًا قاسيًا ومكلفًا, لأنَّه غيابُ الإنسان بكلّهِ, بوصفه وحدة عضوية, إذا ضاعَ جزءٌ منها سيؤثر على باقي الأجزاء, في رحلة البحث عن الهويّة, سيواجه المرء, حالة هي الأصعب والأمرُ والأقسى, وهي حالة الاغتراب, التي بدأت مع بطل الرواية وهو مع أهله وفي وطنه الأصل, فهو مغتربٌ بالقرية والمدينة, مغتربٌ في مصرَ, ومغتربٌ في ألمانيا, هذا الاغتراب حالة مرضية مؤلمة, لكنها بسبب المجتمع وليس بسبب الفرد فحسب, لأنَّ المجتمعَ يساهم في خلق الأفراد.

في رحلةِ البحثِ عن الهويّة في هذه الرواية, كان البطل فردًا, وهذا الفرد أرادَ أنْ يواجهَ العالم بمفردهِ لكنَّه في النهاية, يرجعُ إلى النظام الطبيعي في هذه الحياة, وهي أنَّ الفردَ جزءٌ من العالم, وهذا الجزءُ يتشكّل بما يفرضه النظام العام, في أثناء البحثِ, يكتشفُ الباحث أشياء لمْ تكن لتخطر في باله لولا رحلته هذه, أشياء كان يسمع عنها ويظن ظنًا بها لكنَّه يلمسها في واقعها فهنا يكونُ الاكتشاف ومحاولة إيجاد الذات والهويّة التي ضاعت أو ضيّعها المجتمع بفعل جريمته.

تمثّل النهايات أهميّةً بالغة, وأحسبُ أنَّ الروايةَ مؤلمة وقرأتها وفي داخلي الضيق الذي استمر حتَّى آخر فصل منها, كأنَّ رحمة الطفل ( الرب) في الرواية, كانت منقذة لنا كقرّاء, وفي النهاية  يضع الكاتب الأمل المتمثّل في الرب, وهنا تنتهي الرواية نهاية إيجابيّة, لكن الرب عند حامد عبد الصمد غير الرب عند الآخرين, والدين عند حامد عبد الصمد غير الدين عن الناس, لهذا فلهُ مفهومٌ عن الدين والرب يختلف عن مفهوم الغير, المهمُ أنْ يصلَ إلى هويّته في النهاية ويتفقُ مع الناسِ في وجودٍ ربٍ مدبرٍ رحمنٍ رحيم.


مشاهدات 32
الكاتب إبراهيم رسول
أضيف 2025/11/15 - 4:33 PM
آخر تحديث 2025/11/16 - 12:05 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 32 الشهر 11068 الكلي 12572571
الوقت الآن
الأحد 2025/11/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير