عبد الكاظم البطاط.. أسطورة الصمود والزهد في خنادق الأهوار
حسين باجي الغزي
كنت عازما على ان ازور هذا المجاهد الكبير في بيته المتواضع في احد الاحياء الشعبية في مدينه النجف وقد بلغ من العمر عتيها لكن ظروفي الصحية التي مررت بها، والتي اقعدتني اكثر من عام على الفراش حالت دون ذلك.
ففي صفحات التاريخ المعاصر للعراق، تقف سيرة المجاهد عبد الكاظم البطاط شامخة، ليس بصفته قائداً شعبيا ثوريا قاد حركات الأهوار ضد أعتى الأنظمة وحسب، بل كرمز للزهد والتجرد، ومثال حي للإنسان الذي آثر العيش في «معارضه الخنادق» ساخراً من «معارضه الفنادق».
لقد عاش البطاط عقدين من الزمن (منذ بداية الثمانينات) مختبئاً بين القصب والبردي، وهي قصة صمود تروي تفاني رجل لم يطلب من الحياة سوى كرامة شعبه.
لقد ضرب هذا المجاهد اسم ايات الزهد فلم تمتد يده الى مارب السلطة والى غنائم النظام البائد.. بل أثر العيش على الطير والسمك.
وإذا كان مفهوم «الجهاد» في أدبيات السياسة مرتبطاً أحياناً بالتمويل والدعم الخارجي، فإن جهاد البطاط كان جهاداً ذاتياً في جوهره. فقد عاش هو ورفاقه حياة هي الأقرب إلى التقشف المطلق. ويصف البطاط طبيعة عيشهم بقوله: «الإمداد ذاتي... الاهوار بها موارد كثيرة، مثلاً بها طير وسمك». كانت الحياة ترتكز على ما تجود به الطبيعة، يبيعون منه القليل لتأمين احتياجاتهم الأساسية، في صورة تعكس ابتعاداً كاملاً عن أي رفاهية أو اعتماد على مصادر خارجية في البدايات.
وهنا يبرز زهده الشخصي وقناعته، التي كانت هي الوقود الذي أشعل صمود رفاقة، بل هو زهد في الذات والسمعة والمصلحة الشخصية، يتنازل فيها القائد عن كل شيء لأجل المصلحة العامة، أو لحماية روح إنسان أعطاه الأمان.
ان في أخلاق النبلاء: إنسانية تفوق العداوة،
إذ تجلي الزهد الحقيقي لعبد الكاظم البطاط ، في قصة أسره لقائد قوات ابن غزوان، العميد الركن ط، ع البدر. فبدلاً من الانتقام من رجل كان يهاجمهم بضراوة، عامله البطاط بصفته «ضيفكم»، حتى في أقصى ظروف الجوع والعطش التي عانى منها المجاهدون.
ويقول البطاط عن نفسه: «كنا نعاني من الجوع من العطش». ورغم ذلك، أمر بتدبير طعام لهذا الأسير، بل وضحى بسمعته عندما قرر إطلاق سراحه سراً. فقد طلب من زوجة الأسير أن تشيع خبر دفع فدية ضخمة لـ»أهل الهور» مقابل تحرير زوجها، ليضمن حماية العميد من الإعدام على يد نظام هدام حسين.
لقد فضّل أن يتحمل شخصياً تهمة «أخذ الفلوس» و»الحكي الموزين» ليحمي حياة رجل أعطاه الأمان، في فعل نادر لا يقدم عليه إلا من بلغ قمة التجرد والزهد عن أي مكسب شخصي أو ثناء.
الملاذ الآمن: الجهاد لحماية الإيمان
لم يكن عبد الكاظم البطاط يناضل من أجل منصب أو سلطة، بل كان جهاده «ملاذاً آمناً» لكل مظلوم. لقد كان يسعى لهدفين نبيلين هماحماية النفوس،و توفير مكان آمن لكل من يطلبة النظام ويريد ينخلص من ظلمه.
ان بوجود قوة مقاومة في الأهوار، ضعف نظام البعث عن متابعة «الناس المؤمنين» وملاحقة كل من «يصلي هذا يصوم هذا يدخل بالجامع»، مما سمح لشرارة التدين بالبقاء مشتعلة.
إن هذه الأهداف النبيلة، البعيدة عن أي طموح سياسي أو مادي، تؤكد أن البطاط لم يكن يحارب من أجل ذاته، بل كان حارساً لقيم شعبه وضميره.
إن سيرة عبد الكاظم البطاط هي سيرة قائد آمن بأن النصر لا يتحقق بالعتاد والثراء، بل بالزهد والصدق في القضية. لقد كان قائداً في الحياة البسيطة كما كان قائداً في ساحة المعركة، وظل اسمه مرادفاً للرجل الذي عاش في الأهوار وضحّى بسمعته وشخصه ليحمي أعداءه قبل أتباعه، مجسداً المقولة الخالدة: «نضحي ليعيش الاخرون»، إلا أن تضحيات البطاط كانت تدل على مسير شريف ونبيل في تاريخ الجهاد العراقي.
* من لقاء مع المجاهد عبد الكاظم البطاط في برنامج تلك الايام مع الدكتور حميد عبد الله.