خطوات وذكرى.. حين تتقاطع الذاكرة مع المضي على دروب الحياة..
هدير الجبوري
صدر حديثاً عن دار النشر نون في مدينة الموصل المجموعة القصصية الجديدة
"خطوات وذكرى" في طبعتها الاولى
للكاتبة والصحفية العراقية هدير الجبوري، في عمل يقدم للقارئ دفعة شعورية متكاملة تسير به بين مراحل العمر وطبقات الذاكرة.
في هذه المجموعة، تقدم هدير الجبوري للقارئ عملاً قصصياً يستند الى ما يشبه الخريطة الشعورية التي ترصد من خلالها تحولات الانسان النفسية والعاطفية عبر محطات العمر المختلفة. تتكون المجموعة من
ستة عشر قصة قصيرة، تتفاوت في الطول ولكنها تتحد من حيث النبرة الحنينية، واللغة الرقيقة، والنزعة التأملية التي تتكئ على الذكرى بوصفها محوراً مركزياً لكل قصة.
الزمن كنسيج شعوري لا خطي..
من اللحظة الاولى، يدرك القارئ ان الكاتبة لا تتعامل مع الزمن بوصفه خطاً مستقيماً من الطفولة حتى النضج، بل كنسيج شعوري معقد، تتداخل فيه الازمنة وتتقاطع فيه المشاعر. تعود الكاتبة فيه الى لحظات الطفولة والمراهقة والصبا ليس باعتبارها ماضٍ منقض، بل كنبع دائم التدفق، تؤثر تداعياته على حاضر الشخصيات وتعيد تشكيل ملامحهم النفسية.
هنا، الذكرى ليست سرداً للماضي، بل مفتاح لفهم الحاضر، وكل خطوة في المجموعة تأتي محملة بإرث عاطفي، وكأن الشخصيات لا تمضي الى الامام الا وهي تجر اقدامها فوق ظلالها القديمة.
الانسان في لحظاته الاضعف والاشد صدقاً..
في معظم القصص، تختار هديرالجبوري ان تقف عند مفترقات الانسان مع ذاته: لحظة الانكسار، أول خذلان عاطفي، لحظة الانفصال عن شخص مقرب، لقاء غير متوقع يعيد وجعاً قديماً الى السطح.
لا تسعى الكاتبة الى خلق شخصيات استثنائية، بل تحاول التقاط العادي واليومي، وتصوير ما فيه من هشاشة وانفعال وصدق.
شخصياتها في الغالب نساء وقليل من الرجال، او اولئك الذين يعيشون على حواف التجارب الكبرى: الفقد، التعلق، التوق، والخذلان.
تحسن هدير الجبوري استخدام القصة القصيرة كعدسة مقربة؛ فهي لا تطيل في السرد، لكنها تغوص عمقاً في الجملة الواحدة، تلتقط التفاصيل الصغيرة التي تكون فيها كل القصة أحياناً. وهذا ما يمنح المجموعة بعداً نفسياً واضحاً.
اللغة: بين البساطة الشعرية والاقتصاد الدلالي
ما يميز لغة هدير الجبوري في هذه المجموعة هو قدرتها على تحقيق توازن بين البساطة والعمق. لا تتوسل اللغة المجازية المكثفة او الفخامة الانشائية، لكنها تعتمد على ما يمكن تسميته بالعذوبة الحزينة، لغة ناعمة تحمل بين طياتها صدقاً عاطفياً يجعل القارئ يقف عند كل جملة.
تختصر الكاتبة مشاعر ثقيلة بلغة هادئة، تاركة المساحة للقارئ كي يملأ هو الفراغات بين الكلمات بما يلامس تجربته.
البناء الفني والوحدة العضوية.
رغم تنوع القصص من حيث الشخوص والاحداث، فان هناك خيطاً داخلياً يربطها جميعاً: التمسك بالذاكرة كوسيلة للمقاومة ضد النسيان والانطفاء الداخلي.
البنية السردية في بعض القصص تعتمد على التداعي، حيث تبدأ من صورة او حدث حاضر، ثم تنفتح على ذكريات ماضية، ما يخلق نوعاً من التوازي الزمني الذي يجعل القصة تتنفس على مستويين: مستوى الحدث ومستوى الشعور.
الخطوط الرئيسية : الحب، الفقد، التعلق، والعزلة
والثيمات التي تدور حولها المجموعة واضحة لكنها تقدم بزوايا متعددة:
الحب: لا يأتي في صورة مثالية، بل غالباً ما يكون مقترناً بالفقد او الخذلان.
الطفولة: تظهر كأرض اولى للدهشة والخيبة، وكأن الشخصيات لا تكبر حقاً بل تواصل حمل الطفولة على هيئة جرح داخلي.
الذاكرة: ليست وسيلة تذكر، بل بوابة للبكاء، للحنين، وللبحث عن اجابات لاسئلة لم تطرح اصلاً ...
الكاتبة هدير الجبوري تقدم لنا هنا صوتاً نسائياً حميمياً، يتحدث عن الانفعالات بصوت داخلي ناعم لكنه عميق الاثر.
انها دعوة للقارئ ان يعيد قراءة ماضيه من خلال مرايا الاخرين، وان يؤمن ان ما مضى لا يموت، بل يمشي معنا... خطوة بخطوة، وذكرى بذكرى..
القصص :
القصة الاولى تحمل عنوان (المَلك الصالح)
في هذه القصة ، توظف الكاتبة رمزا يحمل بعدا اسطوريا يرتبط بالحنين لا بالخوف، حيث يتحول المَلك الصالح الى حارس للذاكرة لا طيفا مرعبا. تدور الاحداث في بيت طفولة غير محدد الموقع، لكنه مألوف ومشترك في ذاكرة الكثيرين، ويستعاد من خلال سرد شاعري تنسجه الراوية هدى في القصة
بلغة تمزج بين الحنين والخيال. القصة تقوم على الاسترجاع الزمني وتغوص في الطفولة وعلاقات الاخوة والبيت بوصفه كيانا حيا، لا جدرانا صامتة. تسودها رمزية دقيقة، فالمَلك تجسيد للمخاوف الطفولية الاليفة، وهدى مرآة لكل من يحمل في قلبه بيتا يسكنه طيف قديم. بهذه البساطة والعذوبة، تمنح الجبوري لذاكرة المكان نبضا جديدا، وتجعل من الحنين صوتا لا يخفت.
القصة الثانية (نهاية سورين)
ترسم هدير الجبوري عالم الطفولة البريء، حيث تمزج الخيال بالواقع، وتتكشف القيم الانسانية النبيلة من خلال سلوك بسيط لكنه مؤثر. تسلط القصة الضوء على علاقة الاخوة، وتحديداً بين الاخت الكبرى التي تتقمص دور الراوية والمعلمة، والاخت الصغرى التي تتلقى الحكايات بكل ما فيها من دهشة وصدق وتأثر.
تبتكر الاخت الكبرى شخصية خيالية تدعى "سورين" وتبني حولها حكايات ترويها يومياً لاخوتها. لكن قرارها بجعل نهاية "سورين" مأساوية يشعل مشاعر الخوف والحزن في قلب الاخت الصغرى، فيدفعها ذلك الى تقديم كل ما تملكه من مصروفها اليومي، فقط من اجل ان تغير أختها نهاية القصة وتجعلها سعيدة.
هذه المفارقة الطفولية تسلط الضوء على عدة ثيمات مهمة:
الخيال بوصفه اداة تربوية: حيث تستغل الاخت الكبرى القصص لتشد انتباه اخوتها وتربطهم بعالم من الابداع، لكنها دون ان تقصد تلامس مشاعرهم العميقة، وتكتشف انها مسؤولة عن اثر ما تقوله.
البراءة والانسانية: اذ يجسد تصرف الاخت الصغرى انبل مظاهر التعاطف والكرم، فهي لا تفكر في المال كقيمة مادية، بل تراه وسيلة لانقاذ "سورين" من الحزن، وكأنها تتعامل مع الحكاية كحقيقة واقعة.
النضج العاطفي: فالنهاية تظهر تحول الاخت الكبرى حين تدرك ان القصص ليست مجرد تسلية، بل تحمل تأثيرًا نفسيًا على من يسمعها، خاصة الصغار. فتعيد التفكير في دورها كراوية، وتقرر تغيير اسلوبها حفاظًا على مشاعر اختها.
في المجمل، تأتي القصة كحكاية دافئة تتناول العلاقات داخل الاسرة، وتكشف كيف يمكن لخيال بريء ان يوقظ فينا اعمق مشاعر التعاطف، وكيف يمكن لحكاية بسيطة ان تصبح مرآة لعالم داخلي مليء بالعاطفة والحنو..
القصة الثالثة (كنز على الرصيف) ترسم الكاتبة ملامح علاقة دافئة وانسانية بين الخال وابن الاخت، مستندة الى تقارب الاعمار بينهما، والذي اتاح لهما مساحة مشتركة من الصداقة والتآلف. لا يظهر الخال هنا في صورة الراشد المتفوق بسلطة القرابة فحسب، بل كرفيق مغامرات وطفولة متجددة، يجد في عيني الطفل مرآة لذكريات لم تبهت.
تبرز القصة كيف تصبح ابسط الاشياء، في لحظة مشاركة واكتشاف، كنزا حقيقيا يضيء عالم الطفل، مهما بدت تلك الاشياء تافهة او مهملة في نظر الكبار. فاكتشاف شريط سينمائي مقصوص من آلة تصوير مهملة على الرصيف يتحول الى حدث استثنائي، وكأنه قطعة من الزمن سقطت بين ايديهما، تمنحهما نشوة العثور على شيء ثمين في مكان غير متوقع.
تتجلى مهارة الكاتبة في تحويل هذا الحدث البسيط الى لحظة رمزية تعكس قدرة الطفولة وارواح الكبار الذين لم تنطفئ فيهم الطفولة على خلق الفرح من الهامش، وتحويل المهمل والمنسي الى معنى وحكاية. القصة لا تدور فقط حول شريط سينمائي، بل حول عين ترى في المارة على الرصيف عالما، وفي شظايا الصور احتمالا للحلم والمشاركة والدهشة.
القصة الرابعة (دمية من قماش) تسلط الكاتبة الضوء على ظلال الحرمان في الطفولة، ليس فقط كحالة عابرة، بل كندبة تمتد آثارها عبر الزمن. تحكي القصة عن أب بسيط أراد أن يهدي طفلته دمية كانت تحلم بها، دمية ليست ككل الالعاب، بل كانت تمثل لها تعويضا عن كل الامنيات الصغيرة التي لم تجد طريقها إلى الواقع. لكن الأب، في لحظة قاسية من العجز أو الضيق المادي، يعجز عن تحقيق هذه الأمنية، ويبقى المشهد مطبوعا في ذاكرة الطفلة حتى الكبر.
الكاتبة تلتقط هنا اللحظة التي يتحول فيها الحلم البريء إلى ذاكرة موجعة، وكيف تتكون من خلاله علاقة الطفلة (التي أصبحت أما) مع ابنتها لاحقا، فتغدق عليها اللعب التي لم تملكها يوما، وكأنها تحاول أن تداوي في داخلها ذلك الجرح القديم، عبر منح ابنتها ما حرمت منه.
الرمزية في الدمية القماشية واضحة؛ إنها ليست مجرد لعبة، بل تجسيد لحلم مكسور، لحب عجز عن التحقق، ولحالة من التعويض المتأخر الذي وإن لم يشف الذاكرة، إلا أنه يرمم في الروح بعضا من التصدع.
القصة تعالج ببساطة وصدق كيف أن الحرمان ليس دوما نتاج قسوة، بل قد يكون نتيجة ظرف، وكيف أن الحب، حتى حين يعجز، يبقى حاضرا كقيمة، وكأنه خيط قماشي ناعم يلف الطفولة ويستمر معنا إلى أن نكبر..
القصة الخامسة: فستان قديم
في زاوية من ذاكرة طفلة صغيرة، ظل هناك وجع صغير يتسلل كلما لمحت فستانا جميلا على غيرها. لم يكن الالم في قماش الفستان ولا في لونه البهي، بل في شعورها العميق بانها لم تكن يوما الخيار الاجمل، ولا صاحبة الفستان الذي يدير الرؤوس ويأسر العيون. كانت تنظر الى الطفلة الاخرى، تلك التي خصت بفستان يشبه الحلم، وبصندل انيق يكمل بهاء الصورة، فتضيق بها الارض رغم اتساعها.
تكبر الطفلة، تكبر ويكبر معها الحنين، تملأ خزائنها بألوان الفساتين وخاماتها، وتجرب كل ما تمنته يوما، لكنها في كل مرة تقف امام المرآة، ترى ظل ذلك الفستان القديم، الفستان الذي لم يكن لها، والذي لم يغادرها. لم تكن تلك القطعة من القماش ما يؤلمها، بل الشعور بانها لم تكن يوما مفضلة، بان قلبا صغيرا خُذل ذات طفولة.
ورغم كل ما امتلكته لاحقا، ظل الفستان القديم يمنحها طعما من المرارة، ويذكرها بان بعض الحرمان لا يزول، بل يتحول الى اثر ناعم يشبه جرحا لا يرى، لكنه يحس كلما مر خيال الطفولة من هناك.
القصة السادسة (غريبة في زقاق جديد) تسلط الضوء على تجربة الطفولة مع الاغتراب المكاني والنفسي، حيث تقدم الكاتبة مشهداً داخلياً دقيقاً لطفلة تجد نفسها منقادة إلى عالم جديد لا يشبه ما ألفته. تحضر ثيمة الغربة بوصفها صدمة وجودية أولى، تفرض على الطفلة العزلة والانكفاء، في حين تصبح "ابنة الخال" رمزاً للحنين والانتماء، أو جزيرتها الآمنة وسط مدّ التغيير. اللغة بسيطة تنسجم مع وعي البطلة المحدود، لكنّها تعبّر بعمق عن أثر التحوّل على وعي الطفلة وانفعالاتها. تنتهي القصة بانكسار داخلي واستسلام هادئ، كأنما الغربة لم تُهزم، بل رُكنت في ركن بعيد من الذات، في انتظار أن تنمو معها.
تحفر القصة السابعة ( ندبة لاتشفى)
في الذاكرة الأنثوية الهشة التي لا تنسى الجرح الأول، وتُظهر كيف يمكن لكلمة واحدة أن تتحول إلى وصمة في الروح. بأسلوب بسيط ومشحون بالصدق، تنقل الكاتبة صراعاً داخلياً خفياً بين الضعف والقوة، بين الألم والكرامة، لتجعل من الحكاية صوتاً لكل فتاة حملت في داخلها ندبة لم يُلاحظها أحد، لكنها ظلت تكبر بصمت حتى تحولت إلى قرار..
القصة الثامنة (خطوات وذكرى)
تلتقط الكاتبة خيطا دقيقا من قصص الحب البريئه التي تنمو في الظل، بعيدا عن ضجيج العالم، لكنها لا تنجو من سيف الحرب الذي يبترها من جذورها. ترسم الكاتبه مشهدا مؤثرا لفقد مبكر يضرب قلب فتاه صغيره، فتُغتال الاحلام كما يُغتال المحبوب، ويترك العمر بعدها وحيدا، يتيما من الفرح. القصه تبرز مأساه جيل خطف شبابه بالرصاص، بينما بقيت الحبيبات يحملن وجع الحب الناقص وذكرى الخطوات التي لم تكتمل...
القصة التاسعة (حلم بعيد) تلمس القصة بخيط رفيع مشاعر الامل البعيد، وتصنع منها لوحة تتوهج بالايمان بالتغيير. وتسرد كيف ان حلم فتاة، كان يبدو مستحيلا، قد تحقق بفضل ما اتاحته التكنولوجيا من ادوات ووسائل لم يكن يتخيلها الجيل السابق.
النص يحمل بعدا انسانيا عميقا، اذ لا يقتصر على تمجيد التطور التقني، بل يسلط الضوء على اثره النفسي والاجتماعي، وعلى قدرة الحلم على النجاة من الخيبات اذا ما رافقه الاصرار والفرصة المناسبة.
هي قصة عن فتيل صغير من الحلم ظل مشتعلا في قلب فتاة، حتى اذا ما جاء زمن التكنولوجيا، اشتعل من جديد ووهبها ما كانت تراه بعيدا، ليصير الممكن وليثبت ان الاحلام، مهما ابتعدت، لا تموت بل تنتظر توقيتا مختلفا..
القصة العاشرة (سندويشة جبنة وحقيبة كبيرة)
تسلط القصة الضوء على ظلم مبكر سرق من طفلة ملامح الطفولة, ليقذف بها الى عالم اكبر من وعيها, وأضيق من احلامها.
وجدت الفتاة نفسها فجاة تحمل حقيبة اثقل من كتفيها, لا بالوزن, بل بما فيها من مسؤوليات لم يكن لها ان تواجهها, تسير في طرق لم تمهد لها, تعمل في مكان ماكان يجب ان تكون فيه مع قلب مضطر ان يتقن النضج قسرا.
في اول يوم عمل كانت السندويشة رمزاً والعالم غريبا وصامتا, تماما كدهشة الطفولة حين تسرق على عتبة المكاتب. هذه القصة ليست فقط عن العمل, بل عن الفقد المبكر للبراءة, حين تسرق الحياة من عمر غض, وتستبدل الالعاب بالمهام, والمدرسة بالمؤسسة, والحلم بالواجب..
القصة رقم أحد عشر بالمجموعة القصصية عنوانها (حين رحل فهد)، وتحفر في تربة الألم الأول الذي تزرع فيه بذور الحب بين عالمين غير متكافئين، حيث تلتقي قلوب من طبقات اجتماعية مختلفة، فيغدو الحب مشوباً بالخذلان منذ بدايته. ترصد القصة بحس شفيف كيف تنمو مشاعر نقية في ظل تباينات صارخة بين العوائل، لتكشف هشاشة الأحلام حين تصطدم بجدران الواقع والقيود الطبقية التي لا ترحم.
تتماهى القصة مع زمن الحرب، حيث كل شيء هش، والوطن نفسه على حافة النزف، فكيف للحب أن ينجو؟ لقد اختارت الكاتبة أن تنسج هذه العلاقة العاطفية وسط ركام الخوف والانتظار، لتزيد من حدة الوجع، وكأن الحرب لا تكتفي بسرقة العمر بل تسلب حتى الحق في الحب.
ينتهي كل شيء بتخلي فهد بطل القصة عنها، لكن ما لا يرحل هو الجرح الأول، ذاك الذي لا يلتئم، ويبقى عالقاً كظلال الخسارة الأولى. قصة تنبض بالخذلان النبيل، وتكشف بشاعرية مؤلمة كيف تكون الخيبات الأولى هي الأعمق، لأنها تأتي حينما نحن ما زلنا نؤمن أن الحب وحده يكفي..
القصة رقم اثنى عشر «عند موقف الباص عندما كان القلب اخضر» تحكي عن لقاء صدفة جمع بين فتاتين في موقف الباص حين كانتا تذهبان للعمل. الأولى كانت تراقب الثانية وهي معلقة بشخص كأنه علة لا تُشفى، حب لم تفهم معناه آنذاك. مع مرور السنين، أدركت الفتاة معنى العشق الحقيقي: ذلك الذي يتجاوز الغياب والرحيل، حب يبقى راسخاً في القلب رغم كل الجراح. وعندما تلتقيان مجدداً في نفس الموقف بعد عدة اعوام عن طريق الصدفة ، تكتشف أن ذلك العشق لم يغادر صاحبته، رغم هجرة المحبوب وتركها
خلفه تعاني صمت الوحدة. قصة عن عشق لا يُمحى، وعن قلب يظل أخضر رغم قسوة الزمن وجراح الغياب..
اما القصة رقم ثلاثة عشر ( إمرأة من الزمن الاخر) تقدم فيها الكاتبة لوحة انسانية عميقة، تستعرض وجدان امراة عاشت في عزلة شعورية طويلة، متحجرة بجدران الوحدة، ترفض الاقتراب من تجربة حب حقيقية او تواصل انساني مع رجل. تبنى شخصيتها على الحذر والخوف من الانهزام العاطفي، مما يجعلها وكأنها امراة من زمن آخر، زمن يسبق انفتاح المشاعر والارتباطات السهلة.
حين تلتقي فجاة بالرجل الذي لم تخطط له ولا توقعت وجوده، يفتح باب جديد في داخلها، متذبذب بين الانجذاب والرغبة في الحضور والحب، لكنها تصطدم بواقع قاس: هو لا يبادلها ذلك الاهتمام، ولا يحمل في قلبه حب لها. هذه المواجهة مع الحقيقة تعيد رسم حدود وحدتها، ولكن بنضج مختلف، وقوة اعمق.
القصة تجيد التعبير عن الالم الداخلي الناجم من الحب غير المتبادل، لكنها في الوقت ذاته تنقل تحولا نفسيا مهما في شخصية المراة: من انكسار وضعف الى قوة وادراك ذاتي، تستعيد به السيطرة على نفسها وعلى مصيرها العاطفي. انها لا تهرب، بل تعود الى عزلتها بحصانة جديدة، وكأنها خرجت من العتمة اكثر وعي وصلابة.
اللغة في القصة، رغم بساطتها، تنسج اجواء الحزن والانعزال، مع لمحات من الامل الخافت. والشخصية تقدم بواقعية انسانية متقنة، تجعل القارئ يشعر بمرارة الوحدة وبالمقاومة الصامتة التي تخوضها امراة حين تجبر على مواجهة جرح لم تكن تتوقعه.
في النهاية، «امراة من الزمن الاخر» ليست مجرد قصة عن الحب والفقد، بل هي تأمل في قدرة الانسان على الصمود، وفي قوة التغيير الداخلي التي لا تحتاج بالضرورة الى انتصار خارجي، بل الى انتصار ذاتي هادئ، مليء بالكرامة والصدق مع النفس.
في (همسات الغياب) وهي القصة رقم اربعة عشر في المجموعة، تتحدث الكاتبة فيها عن وجع الحب الصامت، ذاك الذي لا يُعلن ولا يُجاب، بل يُعاش كظل ممتد في القلب لا ينقشع. بطلتها امرأة تكرّس مشاعرها لرجل لا يشعر، أو ربما يتجاهل عمداً، تاركاً لها بقايا الذكريات والحنين تحيا عليها كمن يتغذى على فتات الحلم. القصة تطرح سؤالاً موجعاً: ما معنى أن نحيا بعلاقة من طرف واحد؟ وتقدّم إجابة ناعمة وصادمة في آن، حين يتحوّل الحب من شراكة إلى عبادة صامتة.
اللغة جاءت ناعمة وشجية، تتسلل كهمس يشبه العنوان، وتكثّف الشعور بالفقد والخذلان دون ضجيج. الزمن في القصة متجمّد، كما لو أن البطلة علقت في لحظة واحدة لا تعرف التقدّم، مما يعمّق الإحساس بمرارة الانتظار العقيم. وتنجح الكاتبة في جعل الغياب بطلاً آخر، طاغياً في حضوره أكثر من أي حضور حقيقي...
إنها قصة عن الحب الذي لا يُكافأ، والعطاء الذي لا يُرى، والانتظار الذي لا يُثمر، لكنها أيضاً مرآة شفيفة لقلوب كثيرة تخبئ وجعاً مشابهاً خلف ابتسامات صامتة..
القصة رقم خمسة عشر (حبوب للحنين.. لماذا لم يخترعها احد؟
تمس وترا خفيا من مشاعر الفقد والاحتياج، اذ تنسج الكاتبة امنية غريبة لبطلتها التي تتمنى اختراع حبوب تسكن ألم الحنين. لكن لقاءها برجل مسن يعيد تشكيل قناعاتها، فتصبح العودة الى الحبيب امنية اسمى من محاولات اخماد نار الشوق بالدواء. القصة تطرح بذكاء تساؤلا انسانيا عميقا: هل نريد الشفاء من الحنين، ام نريد من نشتاق اليهم؟
في القصة رقم ستة عشر والاخيرة من المجموعة القصصية، والمعنونة "اين مني انا"، تختتم الكاتبة هدير الجبوري مشروعها السردي بصوت انثوي متهالك تحت وطأة الاعوام محمل بندوب غيره لا بندوبه هو.
تجسد القصة صرخة صامتة لامرأة خُدعت بعقارب الساعة، اذ مشت بها الحياة دون ان تمهلها لحظة لالتقاط انفاسها، او التعرف على ملامحها التي ذابت بين مسؤوليات لم تكن من اختيارها.
تبدأ القصة من لحظة تأمل، حيث البطلة تطالع صورة قديمة لطفلة بجدائل، كانت هي ذاتها، في زمن بعيد. هذه الصورة تتحول الى مرآة رمزية تعكس ما ضاع منها، ما أخذ قسرا من طفولتها، من حلمها، من كيانها. فالقصة لا تروي حكاية امرأة فقط، بل تحاكم زمنا ومجتمعا صادر حق النساء في ان يكن لانفسهن، لا للآخرين فقط.
اسلوب السرد هنا يبدو اكثر هدوءا لكنه مشبع بالحزن والخذلان. لا حاجة للكلمات المرتفعة، فالسطر الهادئ يحمل صدى عمر باكمله. وتنجح الكاتبة في جعل النهاية مفتوحة على مرارة السؤال لا الجواب: اين مني انا؟... سؤال تتقاطع فيه الذات والضياع والندم، ويظل صداه معلقا في ذهن القارئ كانما هو ذاته يسأل عنه.
ختام المجموعة بهذه القصة يعد ختاما متقناً من الناحية النفسية والرمزية، حيث تنتقل الكاتبة من هموم الحب والغربة والصدمات الصغيرة الى جرح العمر ذاته، الجرح الذي لا تشفى منه النساء بسهولة، حين تغتال احلامهن باسم الواجب.