هاشتاك الناس
عصر المنافق
ياس خضير البياتي
النفاق ظاهرة موجودة في كل العصور والأماكن، وأصحابه يمارسونها ببراعة كأنهم لاعبون في سيرك، يُتقِنون فنَّ الدجَل والكذب والمُداهنة والمُراوغة. وقد رأينا تأثيرهم السلبي في قتل الأنبياء والخلفاء والملوك والعلماء، كما حصل مع رموز النفاق؛ مثل: أبو لؤلؤة المجوسي، وابن العلقمي، وابن سلول -كبير المنافقين-، وصانعو «الآداب السلطانية» وقصائد المدح التي منها: «فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ/ إذا طلعت لم يَبدُ مِنهنَّ كوكبُ»
إن المنافق هو شخصية انتهازية تلعب على حبلين، تتميز بكثرة الحيل، وتمتاز بموهبة التلاعب، وقادرة على التخلُّص من الأزمات بكل مكر، فهي دائمًا تتخذ أشكالاً متعددة. فما يقوله المنافق التاريخي لحاكم اليوم هو نفسه ما قاله لحاكم الأمس، وهكذا تدور حياة المنافق في حلقة مُفرغة. فهناك تسلُّل وتلاعُب ومراوغة من قبَل المنافق.
الكثير يتنقل من قارب إلى آخر وفقاً لقوة السلطة والمال، ولا يزال بعض الناس يضع قدمًا هنا وأخرى هناك من منطلقٍ انتهازي، من منطلق أن: (النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لُطف، والنذالة دَماثة)، كما قال عبد الرحمن الكواكبي.
النفاق شرٌ عظيم، حيث يُبدع في إيذاء الآخرين وتضليلهم، ويُعبر عن خداعٍ اجتماعي يهدف إلى التمويه. وتظهر الكثير من المواقف التي تثير الاستنكار، وتجعلنا نشعر بالخجل، فهي تعكس الصورةَ الحقيقيةَ التي وصف بها الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) المنافق، حين قال: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». ووفقًا للفيلسوف السياسي البريطاني ديفيد رونسيمان، فإن خداع المنافق له أوجهٌ عديدة؛ فهو يتضمن ادّعاء معرفة يفتقر إليها الفرد، وادّعاء اتّساق لا يستطيع تحمُّله، وادّعاء وَلاء ليس لديه، بالإضافة إلى ادّعاء هوية لا تنطبق عليه.
للنفاق تفسيراتٌ متعددة لدى علماء النفس والاجتماع؛ حيث فسَّر كلٌّ منهم الموضوعَ ضمن اختصاصه. إنه مرض اجتماعي تصنعه البيئة والأيديولوجيات، وأماكن الأحداث وجغرافية الأزمان وتعاقبها. كما أنه مرضٌ نفسي يتمثل في ازدواجية الشخصية أو انفصامها؛ حيث تعيش شخصيتان متصارعتان في جسدٍ واحد؛ إحداهما تُعبِّر عن نفسها بالمظاهر الخارجية المخادعة، والأخرى باطنية لا يراها الناس، واحدة تتحدث بها والأخرى تتصرف وفقًا لما يُمليه الواقع.
أعرف جيدًا لماذا نما هذا المخلوق الدنيء المعروف بالنفاق في أرض الوطن، وكيف تفشَّى وجودُه، ليصبح كالنمل ينخر في الروح والجسد، ثقافة راسخة في السلوك، وانفصامًا مَرَضيًّا في الشخصية. إن التاريخ وأحداثه ونكباته فرَّخ لنا هذا المنافق تفريخا، هذا الذي حوَّل الحاكمَ العادلَ إلى حاكمٍ مُستبدٍّ بالفِطرة، وجعله يتفاخر بحياته وسلطاته، كطاووس لا يعجبه شيء، فلا ينام إلا على صوت منافق ينشد له الشعر؛ ليمنحه «ألف درهم»!
لقد أصبح النفاق منهج حياة لدى كثيرٍ من الناس، ومن جذور النفاق تنبت الجذوع والأغصان والعناقيد السامة. لذا، لا تتوقَّعوا اعتذارًا أو صحوةَ ضمير من هؤلاء الذين اعتادوا النفاق وأدمنوا الذل، ولا تنتظروا يقظةً تطفو على سطح الأحداث بعد سُباتٍ طويل، لأن توبة المنافق -بحدِّ ذاتها-ستكون نفاقًا آخرَ. وكان الحسن البصري مُحقًّا حين قال: «لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات».
سنشهد في الحياة العراقية أشكالاً وألوانًا من العجائب والغرائب، بدءاً من النفاق مرورًا بالكثير من الفصول السوداء التي تزرع الخبث، وسنرى النفاق يتجلَّى -بشكلٍ واضح- بين العمائم واللحى، ورجال السياسة والنخب الثقافية والعلمية، من أجل كَبْحِ جماحِ أحلامِ الناس. ومن أخطر هؤلاء هو الرجل الذي يُوظِّف الدينَ لمصالحه، مُحوِّلاً إياه إلى قناعٍ يُخفي من خلاله الذاتَ الحقيقية، مُستغلًّا المُقدَّسَ لخدمة المُدنَّس، مُسخرًا العلوَّ لأجل الدُنوِّ.
واليوم، سترى «مولانا وسيدنا» يغني من فوق منابر السياسة أنشودة الوطن، بعد أن كان بالأمس يُردِّد شعارَ الأمة الواحدة وأهازيج معارك القادسية؛ مثل: «إحنا مشينا للحرب» ضد إيران. أما اليوم فهو مع إيران ضد العراق، وستُفاجأ بمحللين سياسيين يتنقَّلون بين القنوات الفضائية العربية، يُقسِّمون أفكارهم -بشكلٍ مُتناقض-حسب سياسة كل قناة؛ فمرةً يصفونها بـ “دولة الإرهاب» في القنوات العراقية، وبعد ساعات تجدهم في القناة الرسمية لتلك الدولة، يُثنون عليها ويدَّعون أنها «دولة النهوض والتنمية»!
ستجد مستشارًا لا يكل ولا يمل عبر عصور رؤساء الوزراء، يتفاخر بإنجازاته حتى لو أدى ذلك إلى تحويل الوطن إلى أنقاضٍ من التراب والقمامة؛ فلا يتساوى الجميع في نظره في الحسنات والسيئات. كما سترى أقلامًا مأجورةً تأبى إلا أن تُبرر التخلفَ والجهلَ والكوارث، بينما هناك أخرى لا تكترث ولا تُبالي.
وسوف تُلاحظ وجود نفاقٍ جديد يغزو حياتنا، وهو النفاق الافتراضي الذي يظهر على مواقع التواصل الاجتماعي. حيث يُخفي الناسُ ذواتهم الحقيقية، ويعيشون في مشاعرَ زائفة، تتمحور حول التمثيل والكذب والنفاق والتلوُّن والخداع والرياء والتملُّق؛ فقد تحوَّلت هذه االمواقع إلى أدواتٍ للنفاق الاجتماعي، فتجد الناس يتلوَّنون بألوانٍ مختلفةٍ عن ألوانهم الطبيعية؛ يُحبونك على (فيسبوك وإنستغرام)؛ لكنهم في الواقع يكرهونك!
إنه لغزٌ كبيرٌ أن تتدرَّج في حل معادلاتٍ رياضية بمعطيات وبراهين ثابتة في مفهوم النفاق، ومع ذلك تفشل في الوصول إلى النتيجة الصحيحة في بلدٍ صعبٍ، يطفو على بحر الغرائب والعجائب، وينام ويصحو على النفاق الصريح، والفساد المُستحكم، وتناقضات السلوك الاجتماعي المريض. ثم يَحدُث انقلابٌ يُغيِّر الأمورَ رأسًا على عقِب، حيث تسير الحياة بالمقلوب!
الخلاصة: النفاق هو مرضٌ يُصيب القلوبَ ويُورث الذل. وقد صدق أبو العلاء المعري حين قال قبل وفاته، بعد أن عانى من الكثير من المنافقين في حياته: «استضعفوك فقتلوك فأكلوك!».
yaaas@hotmail.com