تاريخ آيقونة بغداد شارع المتبني يعود إلى العصر العباسي الثالث
بغداد - هدير الجبوري
يزهر ليل بغداد ونهارها بشارع تراثي ومعلم ثقافي وأدبي قديم ، كان ولايزال مرتبطاً ببغداد وبأهلها منذ ثلاثينات القرن الماضي ...وقد اصبح الان أيقونة من أيقونات عاصمة الرشيد الثقافية والادبية. إنه شارع المتنبي النجم الساطع في سماء اجمل مدينة حضارية وثقافية ، لم يخفت بريقه برغم ماطاله من محاولات للتخريب والعبث ومحاولة طمس روح الثقافة الحية التي كانت ولازالت عصية على كل من يحاول النيل منها ...
هذا الشارع الذي لايهدأ صوت مرتادوه ولاينقطع سيرهم في اركانه طمعاً في الحصول على الكتب الثمينة والمقتنيات الاثمن من تحف وبضائع وتمضية اوقات قريبة للقلب في ظل رحلة سياحية صوب الماضي ومنها للحاضر والثقافة الحقيقية التي مازالت رمزاً لبغداد ..
رواد هذا الشارع هم شعراء وأدباء وكتّاب وفنانون وطلاب وغيرهم الكثير تجدهم منهمكين في البحث عن مبتغاهم وسط اكشاك الكتب منصتين الى اصوات الباعة المتجولين باعلاناتهم الشعبية الجميلة عن بضائعهم المختلفة، وتجد دائما بينهم رواد عرب وأجانب ،وهم مشدودين الى تفاصيل الشارع الثقافية والتراثية ويبحثون عن قطع قديمة وثمينة لترافقهم عند عودتهم لديارهم وكانهم عثروا على كنز في ظل هذا البحث ..
ويكتظ الناس في هذا الشارع الذي ينتهي المشوار فيه بتمثال ابوالطيب المتنبي الذي يقف شامخا مطلاً على نهر دجلة الخالد وكأنه ينتظر كل زائراً له مرحباً به ويجد الجميع ضالتهم عند مقدمة هذا التمثال ليلتقطوا صوراً تذكارية ترتحل بهم الى الماضي وتقف خلفهم عند مقدمة التمثال عبارته الشهيرة أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم..
كل من يدخل في هذا الشارع يشعر بالالفة الحقيقية بينه وبين رائحة الكتب التي تنبعث من المكان وحتى انه يجد نفسه قد اصبح صديقا لاصحاب المكتبات والاكشاك والبسطيات الذين يفترش بعضهم الارض والاخر يمتلك عربة محملة بانواع الكتب والاكسسوارات والتحف الفنية القديمة والتراثية تجعل من الوافدين للشارع يتوقفون كثيرا عند هذه القطع المعروضة ..
ويقع في نهاية الشارع مقهى الشابندر التراثي وكانه قبلة للناظرين المولعين بالتراث وبرائحة القهوة والشاي البغدادي المهيل ولافرق بين ان يدخله رجلا كان او أمرأة فالمكان مفتوح للجميع ولااحد يشعر بالحرج عندما يجلس فيه فكل واحد من الجالسين وفد الى هذا المكان طلباً للهدوء والراحة من متاعب الحياة في ظل رحلة ثقافية ممتدة الى سنوات نحو الماضي والتراث الاصيل..كما يقع في الشارع مباني المحاكم المدنية قديما والمسماة حاليا مبنى القشلة والذي كان موضع مديرية العقاري الطابو ووزارة العدل في العهد الملكي..
وقد قمنا بسؤال مجموعة من الوافدين فيه ومنهم شابة في مقتبل العمر كانت قادمة من منطقة الوزيرية لتتبضع الكتب المنهجية وشراء القرطاسية حيث اوضحت ان (شارع المتنبي اصبح المتنفس الثقافي لاهل بغداد ووجدوا ضالتهم فيه ولاضير من وجود بضائع اخرى مع بيع الكتب حيث لاتتنافس مع الكتاب والراغبين بالحصول عليه).. وأحد المسنين الذي يتكئ على عكاز وهو من منطقة الكسرة ببغداد قال (انه اعتاد على القدوم الى الشارع وتمضية وقت جميل فيه وهو من أهل الثقافة كما يقول والكتاب كان دائما رفيقه لذلك شارع المتنبي مبتغاه من زمن بعيد وليس الان فقط)... بعض الاخوة من دول عربية ومنها الاردن التقينا بمجموعة منهم قالوا (ان بغداد كانت حاضرة الدنيا وأم الثقافة وكلما قدموا اليها لابد ان يزوروا المتنبي). وينتشر في الشارع العديد من العازفين على بعض الآلات الموسيقية ومنها الناي وصوت موسيقاهم التراثية يضفي على المكان جواً جميلاً..ويقف الى جانبهم العديد من الرسامين الذين يرسمون المارة بشكل سريع ومميز ودقيق ويقفون دائما في نهاية الشارع قرب تمثال المتنبي..
ويذكر ان شارع المتنبي الذي يبلغ طوله نحو كيلومتر واحد ويؤدي إلى إحدى ضفاف نهر دجلة، قد تعرّض في العام 2007 للتفجير بسيارة مفخخة تسببت باستشهاد العشرات وخلفت العديد من الجرحى، وتدمرت المحال القديمة التاريخية فيه ومن بينها مقهى الشابندر والمكتبة العصرية بشكل كامل وهي اقدم مكتبة في الشارع.. وتم اعادة إعمارالشارع وافتتاحه مجددا بشكل مغاير وجميل وخلال اعادة الاعمار تمت اضافة تمثال للشاعر المتنبي تم نصبه في نهاية الشارع وهو من تصميم النحات سعد الربيعي..
وتأسس شارع المتنبي في أواخر العصر العباسي الثالث في عهد الخليفة المستعصم بالله. ويعدّ آنذاك امتدادا لسوق الوراقين سوق السراي حاليا، وكان يسمى في ذلك الوقت بـدرب زاخا وهي تسمية آرامية. كان مزدهراً بالمؤسسات الثقافية والمدارس الدينية والعلمية، ومن أشهر هذه المدارس مدرسة الأمير سعادة الرسائلي.
بعد سقوط بغداد على يد هولاكو سنة 1258/ 656هـ هجرية ومرورها بما يصطلح عليه بالفترة المظلمة أو مرحلة الانتكاسة الحضارية وخفت بريق الشارع الثقافي إلى غاية أواسط العهد العثماني حيث تم بناء القشلة من قبل الإدارة العثمانية لتكون سرايا للحكومة،واستكمالا لهذا الإنشاء كان لا بدّ من منفذ لخروج العربات الداخلة إليها من جهة ساحة الميدان خصوصا وان سوق السراي لا يسمح بذلك لضيقه وازدحامه، ومن هنا جاءت فكرة مد وفتح شارع المتنبي ليرتبط بشارع الرشيد كوضعه الحالي الان وقد سمي بادئ الأمر بشارع جديد حسن باشا نسبة إلى المشرف العام عليه وهو رئيس بلدية ولاية بغداد آنذاك حسن باشا..ومن ثم أطلق عليه اسم شارع الأكمك خانة،أي المخبز العسكري باللغة التركية والتي تقع مكتبة النهضة في نفس بنايته الآن، وبعد ذلك وفي عهد الدولة العراقية الحديثة وتحديدا عام 1932 إبان فترة حكم الملك فيصل الأول تمّ إطلاق اسم المتنبي على هذا الشارع تخليدا للشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي.