الإمتحان التنافسي للدراسات العليا.. جسر إلى المستقبل أم قفزة في المجهول؟
إسماعيل محمود العيسى
في إحدى جامعات هولندا، كان طالب نيجيري يستعد لخوض امتحان القبول في برنامج ماجستير متعدد التخصصات بعنوان “التحولات القانونية في السياسات البيئية”، وهو برنامج لا يتطلب امتحانًا تقليديًا، بل مشروعًا بحثيًا صغيرًا، ومقابلة علمية، وخطة توضح كيف سيُسهم المتقدم في تطوير مجاله من زاوية تجمع بين القانون والبيئة، لم يسأله الأساتذة عن حفظ المواد؛ بل عن قدرته على التحليل والتخيل؛ وربط القانون بالحياة، لم يكن الامتحان عائقًا؛ بل كان بوابة عبور إلى مختبر التفكير المتقدم؛ حيث لا ينتهي التعليم بالحصول على الشهادة؛ بل يبدأ به، هذه التجربة تبدو بعيدة تمامًا عن الواقع العراقي؛ الذي يستعد فيه آلاف الطلبة يوم الاثنين 30 حزيران 2025 لدخول الامتحان التنافسي للدراسات العليا، حاملين معهم طموحاتهم؛ ومخاوفهم؛ وربما شكوكهم في أن يكون هذا الامتحان حقًا جسرًا إلى المستقبل؛ أم مجرد قفزة في المجهول.
عطش مجتمعي
لا أحد ينكر أن الرغبة المتزايدة في الدراسات العليا تمثل ظاهرة إيجابية؛ تشير إلى تعطش مجتمعي للعلم والمعرفة؛ وتطلع الآلاف نحو تحسين واقعهم المهني والفكري، وقد شهد النظام بعض الإشراقات التنظيمية؛ مثل بوابة التقديم الإلكترونية؛ ومحاولات بعض الجامعات في تقنين الأسئلة؛ وتحديث نماذجها؛ بل واعتماد بعض الأسس الرقمية في التقييم؛ كما أن بعض الأقسام العلمية بدأت تمنح ورش تحضيرية للطلبة؛ وتفتح قنوات للتواصل والشفافية؛ وهذا كله يُعد مؤشرًا على وجود نيات إصلاحية بدأت تُقاوم الركود القديم. لكن تحت هذه الإيجابيات؛ تتراكم طبقات من الإرباك، فالامتحان في كثير من الجامعات لا يزال قائمًا على استظهار المواد الجامدة؛ ويعتمد أسئلة تُعدّ في غرف مغلقة دون رؤية منهجية وطنية موحدة؛ ودون مراعاة لاختلاف طبيعة التخصصات؛ أو الحاجة الفعلية لسوق العمل، كما أن بعض الجامعات ما زالت تعتمد معايير مفاضلة غير واضحة؛ أو تتخذ من المعدل أو سنة التخرج حاجزًا يُقصي الكفاءات ويكرّس الفوارق، وهنا يظهر سؤال جوهري: هل الامتحان يُفرز فعلاً من يستحق؟ أم يُقصي من لا يملك أدوات الحفظ والتكرار؟ وهل المقصود من الامتحان بناء مستقبل علمي، أم مجرد تصفية شكلية؟تُضاف إلى هذه الإشكالات مشكلة أكبر: لا توجد في معظم الجامعات العراقية جهة مركزية متخصصة تُدير ملف الدراسات العليا برؤية استراتيجية، فالبرامج موزعة بين الأقسام واللجان؛ وغالبًا ما يكون العمل مجهودًا فرديًا لا مؤسسيًا، وهنا يبرز الحل الحتمي؛ وهو إنشاء “كلية للدراسات العليا” في كل جامعة عراقية؛ تتولى تخطيط السياسات؛
محتوى علمي
وضمان الجودة؛ وإدارة البرامج؛ وتطوير المحتوى العلمي وفق فلسفة متجددة؛ تستجيب للتحولات المعرفية المتسارعة؛ وتستحدث التخصصات بحسب حاجة المجتمع وسوق العمل؛ وتكون مرجعية واحدة لكل ما يتعلق بمرحلة ما بعد البكالوريوس، فكما أن هناك كلية للطب أو الهندسة؛ ينبغي أن تكون هناك كلية تُمثل قاطرة الدراسات العليا؛ وتحمل ملفها ضمن فلسفة مؤسسية واضحة؛ لا كإدارة هامشية.
ومن خلال خبرتنا المتراكمة التي قضيناها بين ثنايا الجامعات المختلفة سواء داخل العراق أم خارجه، وجدنا أن الخلل الأكبر لا يكمن فقط في آليات الامتحان؛ بل في غياب الإرادة الجادة لتجديد بنية البرامج والمناهج بما يتوافق مع التغيرات العالمية؛ إذ لا يزال الطرح الأكاديمي محصورًا في مسارات تقليدية؛ لا تُنتج معرفة عابرة للتخصصات؛ ولا تواكب تحديات الواقع المعاصر، ويغيب عنها ما يُعرف عالميًا ببرامج “الاختصاصات المتقاربة” أو “المتداخلة” التي باتت اليوم معيارًا لجودة التعليم العالي، فبينما تطلق جامعات المنطقة والعالم برامج تدمج القانون بالتكنولوجيا؛ أو الشريعة بالقانون؛ أو الإعلام بالذكاء الاصطناعي؛ أو الطب الحيوي بعلم البيانات؛ أو الزراعة بالذكاء الصناعي؛ أو علوم الأرض بالهندسة البيئية؛ لا يزال العراق محصورًا في نماذج تقليدية تُكرر نفسها منذ عقود؛ وتنتج أطروحات لا تنفذ إلى صلب الواقع؛ ولا تُسهم في إدارته أو فهمه، ما نحتاجه فعلًا هو دعم استحداث برامج جديدة في الاختصاصات المتقاربة؛ كالقانون والسياسة؛ أو القانون والشريعة؛ أو الإدارة البيئية والاقتصاد؛ أو علوم الحياة والتقنيات الطبية؛ أو الحوسبة التطبيقية والرياضيات؛ لأن الواقع لا يُفهم اليوم من زاوية واحدة؛ ولا يُصلح بعقل واحد.إن الامتحان التنافسي، بما فيه من رهبة وتوتر، لا يجب أن يكون عبئًا نفسيًا على الطلبة؛ بل فرصة حقيقية لاختبار التفكير؛ لا الحفظ؛ والإبداع لا التكرار، وهو لن يؤدي غايته ما لم يُصمم ضمن رؤية علمية شاملة؛ بإشراف وطني موحد؛ وباعتماد معايير الشفافية؛ والعدالة؛ والموضوعية.إن الإصلاح الحقيقي لنظام الدراسات العليا لا يبدأ من تعديل الأسئلة؛ بل من إعادة النظر في فلسفة القبول؛ وتطوير البرامج؛ وتحديث المناهج؛ وإعادة تصميم الهيكل الأكاديمي ليكون ديناميكيًا لا جــــــــــــامدًا؛ مع توفير التمويل؛
وضمان البيئة البحثية؛ وربط البحوث بحاجة الدولة؛ لا برغبة الترقية الأكاديمية فقط. في النهاية تبقى الأسئلة مفتوحة: هل سيكون امتحان هذا العام بوابة عبور إلى دراسات عليا تستحق اسمها؟ هل نحول هذه الفرصة إلى نقطة انطلاق؛ أم نكرر نفس المشهد بإخراج مختلف؟ هل نعيد للبحث العلمي اعتباره؟ أم نواصل تحويله إلى إجراء شكلي؟ والجواب لن يأتي من قاعة الامتحان وحدها؛ بل من القرار المؤسسي؛ ومن الجرأة في مواجهة الذات؛ ومن احترام العقول التي تقف اليوم في طوابير الأمل، متسائلة: إلى أين نمضي؟ وهل هذا الجسر الذي نمشي عليه يؤدي حقًا إلى المستقبل… أم أنه مجرد قفزة في المجهول؟