خير الكلام ما قل ودل
مجموعة القصة القصيرة جداً (أراني أعصر حبراً) للأديب عبد الله الميالي أنموذجاً
حميد الحريزي
عنوان المجموعة :-
عصر الشيء من أهم دلالاته هو استخلاص روحه وحيازة جوهره، وكذا هو حال عصر الفواكه وعصر الزيتون وغيره مما هو قابل للعصر، أما أن نعصر حبراً فهي بلاغة جميلة ومعبرة للحصول على روح الحبر، وهو وسيلة كتابة الحروف والكلمات، مما يدل على فعالية الحصول على روح الحروف وأجمل وأبلغ تعابيرها ودلالاتها المعرفية والجمالية للوصول إلى جوهر مقولة (خير الكلام ما قل ودل) ومثاله النموذجي في الأدب هو (القصة القصيرة جداً) ...
هذه الصغيرة البليغة الحكيمة الجميلة التي استطاعت أن تجد لها مكاناً متميّزاً في عالم السرد، لتكون نجمة مضيئة في سماء السرد القصصي والروائي المهيمن على الفضاء السردي الأدبي في عصرنا الراهن في كل أنحاء العالم، وشكلت لها ذات قوية مستقلة ولم تعد تتعلق بأذيال القصة القصيرة أو الرواية، بل شكلت نوعا قصصياً مميزا لها كامل مواصفاتها وخصوصيتها ...
وأثبتت أن قصرها الشديد لا يعني أبدا سهولة كتابتها، بل على العكس من ذلك فهي فن سردي عصي على المطاوعة، عصي على الاحتواء، عصي على القبض لمن لا يمتلك كفاءة وقدرة ومراس ومخزون ثقافي كبير ليكون قادراً على قول (خير الكلام) الممتلئ بالدلالة وقوة الإيحاء معبراً عن قوة دلالته وسعة معناه بأقل ما يمكن من الكلمات، وأن تقدم نفسها بأجمل مظهر وأعمق مخبر ... فغالبا ما نحتاج إلى تسويد صفحات عديدة لنتمكن من شرح وإيضاح ما عُنيت به وما ذهبت إليه القصة القصيرة جداً، التي ربما لا يزيد حجمها عن سطر أو سطرين أو ثلاثة أسطر ...
وهي بذلك تمكنت من فهم روح العصر الذي يتطلب الإيجاز والتكثيف والانزياح، في عصر السرعة الذي يتطلب الإيجاز وعمق الدلالة، إنها سهم يتحكم فيه قوس محكم الصنيع بيد متمرس قوي العضلات، قادر على بلوغ هدفه بأسرع وقت وبأقل جهد ليقدمه صيداً ثمينا إلى المتلقي فيسره المظهر ويبهره الجوهر تتطلب منه التفكر والتدبر لإدراك معناه وفهم مرماه ....
وكاتبنا هنا الأديب عبد الله الميالي الذي كتب الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، تمكن بكفاءة مشهود لها من الأخذ بناصية هذه الصغيرة القصيرة المشاكسة، ليكون طوع بنانه راقصة حروفها بين أنامله مطاوعة لرسم أجمل الصور وأبلغ المعاني وهي راضية مرضية، لأنه مكنها من الخروج إلى النور من رحم فكره ومخيلته بعد أن اكتملت دورة حياتها على أكمل وجه، موفرا لها قدرة الإبهار والجمال من خلال مدها بخزين لغوي ثري وخيال واسع وفطنة ودقة ملاحظة ورصد متغيرات الحياة لتصلب عودها وتكمل فصاحتها ودلالتها، بحيث تمكنت أن تعبر أحسن تعبير في حالة التهكم ، والتناقض، وتوصيف التجويع والترويع والمفارقة في حياتنا الاجتماعية بمختلف محاورها السياسية والاقتصادية والسلوكية، ومن أهم ميزات الميالي في القصة والقصيرة جداً هي إجادة قفلة القصة، بحيث تكون صادمة وتشكل مفاجئة غير متوقعة للقارئ، وأنا اعتبر هذه القفلة الصادمة هي ملح القصة والقصة القصيرة جداً، فبدت لنا مجموعة (أراني أعصرُ حبراً) باقة ملونة معبرة تسر الناظرين والمتفكرين ...
نماذج مختارة من المجموعة القصصية
سادية الأجهزة القمعية :-
ومن أمثلة توصيف السادية لأجهزة السلطات القمعية أثناء ممارسة التعذيب ضد المعارضين كانت قصة (تكتيك ) ص15 ، فبعد أن يتعب الجلاد حامل السوط، يسلمه إلى زميله (المبتسم) وهي دلالة الإغراق في العدوانية والتمتع بالتعذيب والقمع لضحاياهم، يناوله الماء ويلوح له بعلبة السجائر، ليجعله يتوهم أنه سيعطيه سيجارة ليطفئ بها نار غضبه وألمه، لما تشكله السيجارة من أهمية بالنسبة للمدخن خصوصا في مثل هذه الحالات، ولكنه بدلا من أن يسلمه السيجارة، يطفأ جمرتها في عين الضحية!! (أشعل واحدة .. أقترب وهو يبتسم .. ويبتسم .. وأطفأها في عيني !)
أنه توصيف موجز بليغ لهذه الفعل الوحشي الذي يمارس ضد ضحايا الأنظمة القمعية الفاشية .
وكما ورد في قصة (دموع) ص26 . التي ترمز إلى أن أهل السجين عند السلطات لابد انه ميت ، لذلك نصبوا له سرداق العزاء قبل أن يعرفوا مصيره، حيث يصدم بعد إطلاق سراحه بوجود سرداق عزاء في باب البيت.
توصيف حالة الجوع ولا مبالاة السلطات وجحودهم لعوائل الشهداء.
في قصة (مقايضة ) ص16
تهدي الحكومة والد الشهيد شهادة تقديرية، أو نوط تكريم وغيرها من علامات التقدير التي لاتسمن ولا تغني من جوع، متغافلة عن ما تعانيه هذه العوائل من العوز والضنك، مما يضطر والد الشهيد إلى بيع هذه الشهادة أو الوسام في السوق ليشتري علبة حليب لحفيده ولد الشهيد الذي ضحى بدمه من أجل الوطن ولكن ولده يتضور جوعاً.
وكذلك في قصة (عزيمة) ص22
حيث تصف مدى حرمان الأطفال في مجتمع ظالم، كذلك تعبر عن براءة الأطفال وأحاسيسهم تجاه بعضهم بعض: (يفوز الطفل الحافي بسباق الركض، يُكرّم بحذاء رياضي . يهديه لشقيقته ويستعد لسباق جديد) ص22.
وكما في قصة (لهفة) حيث يلتهم الطلبة السبورة لالتهام موجدات المائدة التي رسمها المعلم عليها!!
قسوة التقاليد والأعراف وظلم المرأة
ففي قصة (تمرد) ص18
يروي لنا القاص حالة القسوة المتناهية في مجتمع ظالم وفي غاية القسوة ضد المرأة إن زلت بها القدم نتيجة كذبة وثعلبة الرجال الذكور مما يجعلها ترتكب الخطيئة بعد أن أجزل لها الوعود المعسولة، تظهر عليها علامات الحمل (هضبة بطنها قطعت الشك باليقين)، فيقتلونها ويوارينها التراب وأثناء ذلك تكون ولادتها لطفل بريء صراخه يخترق كومة التراب ليدفن حياً مع والدته، كل هذا يجري في حين يفلت الجاني الرجل المجرم من العقاب ، في حين تقتل الفتاة تحت يافطة غسل العار .
وكما في قصة (يوم الحساب ) ص41. حيث تحصي امرأة المتوفى صفعات زوجها كحسنات تحصى للميت إن وجدت له حسنات .
وقصة (ندم) ص42، حيث كانت تنتظر زوجها ليسامحها إن كانت مخطئة، لكنها تتلقى ورقة الطلاق بدلاً من السماح.
زيف وكذب وعود الطبقة السياسية الحاكمة
في قصة (ثعلب)
توصيف لسلوك رجل السياسة وتسوله الأخلاقي ونعومة أسلوبه والإكثار من الوعود للناخبين ليحظى بأصواتهم، حتى يبلغ مرامه بالحصول على الموقع والمنصب، وما أن يعتلي (القمة) (طالبوه بالوفاء. أشار لهم بأصبعه الوسطى)! أي انه ألقمهم القازوقن وليس هناك أية مكاسب متنكراً لكل وعوده، وهذا هو حال أغلب قوى السلطة الحاكمة في عراقنا اليوم .
وكما في قصة (وعود) ص48.
النقد الأدبــــــــــــــــــي
كذلك لم يهمل الميالي مسألة إعطاء رأي في بعض الكتابات القصصية ، طبعا ينعكس ذلك على بقية الأجناس الأدبية حينما يتطفل بكتابتها، أشخاص غير أكفاء لا يجيدون الكتابة، مما يتطلب المراجعة والمتابعة وبذل الجهد بالإضافة إلى توفر الموهبة لتؤهل الفرد على الكتابة، فبعد تشذيب القصة القصيرة جداً وحذف الزائد لا يبقى سوى العنوان الهجين (ققج) ، كما ورد في قصة (تعجيم ) ص24.
فقدان موازين العدالة .
في مجتمع ظالم، ومجتمع يعيش حالة تمايز طبقي صارخ حيث الثراء الفاحش والفقر المدقع، ولكن أحكام القانون تطبق على الجميع دون أخذ الدافع لما يسمى جريمة في نظر النظام المهيمن، وإلا ما معنى إدانة شخص جاع امتدت يده إلى رغيف خبز بسبب الجوع كما ورد في قصة (فقدان) ص25 : (وجدت العدل أكلته الأرضة).
أما في قصة (لحظتان) ص36 ، حيث يشار إلى حجم المعاناة والحرمان الذي يعانونه أطفال الطبقة الفقيرة، حيث تفلت الطفلة الصغيرة راكضة نحو معرض اللحوم الطرية المحرومة منها، لتكون فريسة لسيارة مسرعة في الشارع، فتسقط صريعة: (الذباب يتكوم حول لحم طري).
قساوة ومأساوية الحروب :-
الحرب محرقة قاسية سواء للمعتدي أو المعتدى عليه، حيث تكون ضحيتها الناس الأبرياء ، سواء بالموت أو العوق، وتقتل كل طموحاتهم وأحلامهم ، وتطلعاتهم كما وردت في قصة (ذكريات) ص31، حيث كان يحلم قبل الحرب أن يكون من الفائزين بسباق الركض، ولكنه يصدم بالحقيقة عندما يصحو ويدرك بتر ساقه وسيلة الركض قد بترت في الحرب ... إنها نهاية مفجعة وصادمة حقاً وهذه هي الحرب جملة فجائع ومصائب تحل بالبشر ...
وكما في قصة (اشتياق) ص40 ، حيث يتجاور قبري ضحيتان من ضحايا الحروب ...
بعض مظاهر التدين الزائف
طفل يموت في مستشفى تشكو الظلام لعدم توفر الطاقة الكهربائية، في حين يفتح عينيه مبهوراً من شدة الإنارة وبهرجة الإضاءة في المسجد حيث يؤدون عليه صلاة الميت ... كما في قصة (ترف) ص33.
وهذه مظاهر موجودة، حيث توجد الكثير من المساجد الباذخة المساحة والمعمار والتأثيث ، لا يؤمها أحد، وأحياناً بعض أفراد، في حين يفترش الكثير من الناس الساحات والمقابر للنوم والسكن ... بينما بيوت الله معيل الفقراء تشكو الوحشة ..
سرقات تضحيات الأخرين :-
كما في قصة ( زيف) ص34 ، حيث يفتخر الأطفال ببطولات والدهم في الحرب، لا لشيء إلا لأنه سرق خوذة أحد رفاقه في السلاح الذي قتل برصاصة ثقبت جمجمته عبر خوذته، التي سرقها ليُعزى له الفعل البطولي ويكرم بوسام الصمود!!
تلغيز طريـــــــــــــــف
كما في قصة (تلصص) ص35
حيث الفتاة الجميلة ذات التنورة القصيرة المنشغلة بقراءة مجلة بين يديها، في حين هو الجالس قبالتها في الباص كان مستمتعا بقراءة ما بين (السطور)!
الانتصار لدمشق الجريحة
كما في قصة (دمشق) المتألقة، صاحبة التراث العريق، والحضارة التي تخطف الأبصار، ولكن القتلة رموها بنيازك قبحهم من اجل تدميرها، ولكنها كالعنقاء ستنتفض من جديد لتعانق السماء...
وهناك قصص تتكلم عن الجحود كما في قصة (عتاب) ص46.
المجموعة غنية بعدد كبير من القصص المشوقة والمعبرة عن مختلف الأهداف اجتماعية واقتصادية وثقافية وسلوكية ... الخ، صاغها القاص الميالي بقلمه الماسي وبخياله الباذخ السعة والجمال لا يمكن تغطيتها جميعها لا يسعها المقال والمجال، ولكي أكون وفياً لعنوان مقالتي (خير الكلام ما قل ودل ) اكتفيت بهذا القدر من محاولة تحليل وتأويل وعرض قصص المجموعة ... نرجو لكم متعة قراءة هذه المجموعة الرائعة .