العراق ودبلوماسية السلام.. من ساحات للصراع إلى جسر للتواصل
أثير هلال الدليمي
تمثل الدبلوماسية العراقية اليوم نموذجًا متقدمًا في تبني دبلوماسية السلام، بعد عقود من الصراعات والتحديات السياسية والأمنية. فقد شهد العراق تحولات جوهرية في سياسته الخارجية، أستند فيها إلى مبادئ حسن الجوار، والحياد الإيجابي، والانفتاح على مختلف القوى الإقليمية والدولية. ولعبت بغداد دور وسطي وفاعل يسهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي من خلال الحوار والتفاهمات الدبلوماسية.
التطور التاريخي للدبلوماسية العراقية
مرت الدبلوماسية العراقية بمراحل مختلفة عبر التاريخ، حيث تأثرت بالأحداث الداخلية والإقليمية والعالمية وكانت تتأرجح بين الانفتاح والتوتر، وفقاً للظروف السياسية التي مرت بها البلاد، ففي فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لعب العراق دوراً مؤثراً في القضايا العربية والإقليمية، بأعتباره عضواً فعالاً ومؤثرا في المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، لكن مع اندلاع الحروب، ابان فترة الثمانينات وماتبعها من نزاعات، دخل العراق في عزلة دبلوماسية تثقلت بالعديد من العقوبات الدولية التي فرضها مجلس الأمن الدولي والتي استمرت لغاية تغيير النظام السياسي في 2003.
واجه العراق تحديات كبرى في إعادة بناء علاقاته الخارجية مع المجتمع الدولي فقد تحولت الدبلوماسية العراقية من العزلة إلى الانفتاح ومن الحرب الى السلم.
سعت الحكومات المتعاقبة إلى استعادة وتعزيز وتطوير العلاقات مع الدول العربية والإقليمية والدولية، وإعادة الانضمام إلى المنظمات الدولية وبدأت السياسة الخارجية العراقية تتجه نحو تبني نهج متوازن، يسعى إلى تحقيق المصالح الوطنية بعيداً عن الاستقطاب السياسي، معتمدا على الحوار كوسيلة لحل الأزمات، ودخل العراق مرحلة جديدة من الدبلوماسية القائمة على تعزيز العلاقات مع المجتمع الدولي وفق أسس الشراكة وعدم التدخل في شؤون الآخرين.
دور العراق في تعزيز دبلوماسية السلام
تقوم الدبلوماسية العراقية المعاصرة على عدة أسس تهدف إلى تحقيق الاستقرار وتعزيز السلم الإقليمي والدولي:
1. سياسة الحياد الإيجابي
اتجه العراق إلى تبني سياسة الحياد الإيجابي، والتي تعني عدم الانحياز إلى أي محور دولي أو إقليمي، بل العمل كوسيط لحل النزاعات. وقد برز هذا الدور في وساطات العراق بين الدول المتخاصمة، مثل الوساطة بين إيران والسعودية التي أسفرت عن استئناف العلاقات بينهما في 2023.
2. التعاون الإقليمي والدولي
عزز العراق علاقاته مع دول الجوار من خلال اتفاقيات التعاون في المجالات الاقتصادية والأمنية والثقافية. كما لعب دوراً نشطاً في القمم العربية والإقليمية، وساهم في مناقشة القضايا المشتركة مثل الأمن المائي، ومكافحة الإرهاب، وإعادة الإعمار.
على الصعيد الدولي، حرص العراق على تطوير علاقاته مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، سعياً إلى تعزيز الاستقرار الداخلي، والاستفادة من الدعم الدولي في إعادة الإعمار.
3. مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن الدولي
بعد الحرب على تنظيم داعش، سعت الدبلوماسية العراقية إلى حشد الدعم الدولي لمكافحة الإرهاب، وتعزيز التعاون الأمني مع الدول الإقليمية والعالمية. وقد أسهمت هذه الجهود في تحقيق استقرار نسبي في البلاد، واستعادة العراق لدوره كشريك دولي في مكافحة التطرف.
4. دعم القضايا العربية والدولية
واصل العراق دعمه للقضية الفلسطينية، وعبر عن مواقفه الداعمة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في مختلف المحافل الدولية. كما لعب دوراً في دعم القضايا الإنسانية، مثل ملف اللاجئين، وإعادة النازحين، والمشاركة في مبادرات التنمية المستدامة.
التحديات التي تواجه الدبلوماسية العراقية
على الرغم من النجاحات التي حققتها الدبلوماسية العراقية، إلا أنها تواجه عدة تحديات، منها:
1. التجاذبات السياسية الداخلية: تؤثر الانقسامات السياسية على وحدة القرار الدبلوماسي، ما يضعف الموقف العراقي في بعض القضايا الخارجية.
2. التدخلات الإقليمية والدولية: العراق محاط بدول ذات مصالح متعارضة، مما يفرض عليه تحديات في تحقيق التوازن بين هذه القوى.
3. التحديات الاقتصادية: يعتمد العراق على النفط كمصدر رئيسي للدخل، مما يجعله عرضة لتقلبات السوق العالمية، وهو ما قد يؤثر على استقلالية قراراته الدبلوماسية.
4. إعادة الإعمار والتنمية: لا تزال البلاد بحاجة إلى دعم دولي واسع لإعادة الإعمار بعد عقود من الحروب والصراعات.
آفاق الدبلوماسية العراقية ومستقبلها
مع استمرار العراق في تعزيز دوره الإقليمي والدولي، يمكن أن يحقق إنجازات أكبر في مجال دبلوماسية السلام من خلال:
1. تعزيز الدور الوسيط للعراق
مع تزايد التوترات الإقليمية، يمكن للعراق أن يواصل دوره كوسيط في حل النزاعات، مستفيداً من موقعه الجغرافي وعلاقاته المتوازنة مع مختلف الأطراف.
كدعم مبادرات الوساطة في النزاعات الإقليمية، مثل الأزمة السورية والأوضاع في فلسطين واليمن.
2. توسيع العلاقات الاقتصادية
يمكن للعراق الاستفادة من دبلوماسية الاقتصاد عبر تنويع شراكاته الاقتصادية، والانضمام إلى مشاريع إقليمية ودولية تسهم في تعزيز التنمية والاستقرار.
3. تعزيز التعاون الأمني والدفاعي
يتطلب الحفاظ على الاستقرار الداخلي تعزيز التعاون الأمني مع الدول المجاورة، خاصة في مكافحة الإرهاب، وضبط الحدود، والتصدي للجماعات المسلحة.
4. الاستثمار في القوى الناعمة
يستطيع العراق توظيف الثقافة والتعليم والبعثات الدبلوماسية كأدوات لتعزيز صورته الدولية، واستقطاب الاستثمارات والسياحة، مما يسهم في تحسين مكانته العالمية.
وفي الختام تثبت الدبلوماسية العراقية أنها نموذج ريادي في تبني سياسة قائمة على السلام والحوار والتوازن. من خلال دورها في الوساطة وتعزيز التعاون الإقليمي، يساهم العراق في تحقيق استقرار المنطقة ويدعم الجهود الدولية في إحلال السلام. ومع استمرار التحديات، فإن نجاح الدبلوماسية العراقية يعتمد على استمرار الانفتاح والتنسيق مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية لضمان مستقبل أكثر استقرارًا وأمانًا.
دكتوراة في القانون الدولي
متخصص في الأمن السيبراني الدولي