ترامب يُقض المارد الصيني
رائد العزاوي
إن الدول ذات الموروث الحضاري الضخم يصعب إخضاعها أو كسر إرادة شعوبها، هذه الحقيقة تتمثل دائما أمام أي باحث سياسي، والأسباب كثيرة، فخذ مثلا النموذج المصرى أو حتى النموذج السوري أو العراقي، فشعوب تلك الأمم تستطيع توظيف إرثها الحضاري وشعورها بالعزة الوطنية في استعادته أمجادها.
كما أن هناك بأقصى بقاع الأرض في الشرق الصين هذا المارد الكبير كنموذج متفرد بحكم خصائصها الديموغرافية والاستراتيجية والثقافية ونظام حكمها الذي يرتكز عبر 5 آلاف عام من المركزية، بما أكسبها هذا الطابع الاستثنائي وأضفى عليها تلك الخصوصية ورشحها في ذات الوقت للعب دور مهم فى إعادة صياغة النظام العالمي الجديد بعيدا عن الغرب بما تملك الصين من مقومات مؤهلة لها لتهيمن على الإمبراطورية الأمريكية التى بان عليها الهرم والعجز، بعد أن أقحمت أمريكا نفسها في حروب وصراعات خارجية( اقتصادية في الوقت الحالي ) وتنامي حالة اليأس داخل المجتمع الأمريكي من الإصلاح وإن حاول هذا المجتمع النهوض عبر انتخاب دونالد ترامب «كرئيس مخلص».
شعور قوي
ثمة دلائل تشير إلى أن ظاهرة صعود الصين ستستمر بالرغم من اختلافها عن النموذج الغربي الذي بدأ مع الثورة الصناعية، حيث إن الشعور القوي بالسيادة الوطنية المتجذر في تاريخ الصين العريق ظهر مجددا في صين القرن الواحد والعشرين، في ظل مجتمع صيني تسوده القيم الحضارية ولا يعاني من العنصرية، بالإضافة إلى عدم تعثر معدلات النمو عن 8 بالمئة منذ سنوات طويلة بالإضافة إلى الانطلاقة الصينية المتنامية ستجعل من الصين صاحب أول نظرية سياسية فى العالم وفق معادلة صعبة مفادها «الانفتاح: نعم، الديمقراطية: لا»، بينما سعى كل قادة الصين إلى سياسة براغماتية محددة المعالم ظهرت فى مقولة الرئيس الصينى دينغ شياو بينغ المشهورة «لايهم إن كان القط أسود أم أبيض لأقول إنه قط جيد المهم إنه قادر على اصطياد الفئران»، وهو ما يعنى أن الأساس في المجتمع الصيني الحديث أن يكون المرء منتجا بصرف النظر عن كونه شيوعيا أو رأسماليا.
ظلت الولايات المتحدة الأمريكية مهيمنة على العالم في القرن الماضي فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 كانت المحرك الأساسي في تأسيس المؤسسات الدولية والمؤسسات المتعددة الجنسية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحلف شمال الأطلس «الناتو».. إلخ، كما أصبح الدولار العملة الأكثر تداولا فى العالم، كما أدى انهيار «الاتحاد السوفيتي» عام 1991 إلى تعزيز مكانة أمريكا فى العالم وأصبحت تتمتع أيضا بنفوذ عسكري مباشر في كل أجزاء العالم، وبدأ الأمر في الألفية الجديدة كما لو أن مكانة أمريكا العالمية غير قابلة للاهتزاز، وأصبح أيضا مصطلح «الأحادية القطبية»، أو «القوة العظمى» الوصف الشائع الجديد لهذه القوى التى لا مثيل لها، ولكن سرعان ما بدأت عورة هذه الدولة تظهر بعد خسارتها لحرب العراق، وما تبعها من أزمة مالية عام 2008 وانهيار المؤسسات المالية الضخمة في وول ستريت.
هنا ظهرت الصين لتقديم يد العون للاقتصاد الأمريكي أكبر المدنيين لها والذي أوشك على الانهيار ليس بهدف إنقاذه، وإنما لتضمن الصين قدرة أمريكا على سداد ديونها الضخمة للصين والتى تقدر بنحو 300 تريليون دولار حسب تقديرات غير رسمية، لكنها قريبة من الواقع، بينما زادت معدلات الاحتياطيات النقدية في الصين خلال السنوات العشر الأخيرة إلى نحو 55 بالمئة، بينما تراجعت الاحتياطات الأمريكية لتصل 22 بالمئة في نفس الفترة الزمينة، وفي معدلات النمو ما زالت الصين هي الأعلى حتى الآن وظلت المنتجات الصناعية الصينية تتفوق على مثيلاتها الأمريكية بنسبة 1 إلى 6 بالمائة سنويا، أما الناتج المحلي «GDP» في الصين فإنه سيبلغ العام 2025 مثيله الأمريكي، والمفارقة أنه سيكون الضعف عام 2050 إذا ما استمر النمو الاقتصادي الصيني بهذه المعدلات من 7 إلى 8 بالمئة، كما أنه ما زالت تحافظ الصين على تفوقها في خفض إنفاقها العسكري، فبينما تنفق أمريكا 48 بالمئة من ميزانيتها على التسليح «رغم زيادة مبيعاتها للأسلحة، وخصوصا بعد الحرب الروسية الاوكرانية » ظلت الصين محافظة على معدل الإنفاق العسكري 20 بالمئة، مع التوقعات بأن ينخفض إلى 18 بالمئة خلال السنوات العشر المقبلة ما يعني توجيه هذا الفائض نحو التعليم والصحة والبنى التحيتية.
إن هناك عاملا داخليا آخر يهدد بانهيار الإمبراطورية الأمريكية لصالح الصين يتمثل في المجتمع الأمريكي ذاته الذي يعاني من العنصرية وتعدد الأجناس والأعراق والذي ظلت أمريكا تعتبر هذا التعدد كحد سمات أمريكا، لكنه يظل عاملا مستقبليا مهددا لوجودها، بينما تحافظ الصين على مجتمعها المتماسك عرقيا، فأغلب (92 بالمئة) من الصينيين ينتمون لعرقية (الهان)، وهم ينظرون إلى أنفسهم كحضارة وليس كأمة.
نظرة دونية
وهكذا فإن العالم سيتغير لصالح الصين التى افتتحت عصرا جديدا مع الدول العربية، ومنها مصر والعراق وسوريا تلك الدول التى عانت كثيرا من غباء السياسية الأمريكية والنظرة الدونية لها كدول صاحبة حضارة وموروث تاريخى ضخم، ولكن علينا التعامل وبحذر مع التنين الصيني، وألا نكرر ذات الأخطاء التى ارتكبناها كعرب فى تعاملنا مع أمريكا، ويجب النظر إلى أن هناك مصالح للصينيين فى بلادنا، وعليهم أن يتعلموا أن الأمم مثلها مثل الإنسان صغيرة تولد ثم تكبر، وتشب ثم تشيخ، وتهرم وتموت والبقاء للتاريخ.
مدير مركز الأمصار للدراسات الاستراتيجية