الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ظلال الضوء الراقص

بواسطة azzaman

ظلال الضوء الراقص

هشام سلام كاظم

 

ما زال لا يعرف من يقبع خلف الجبل. الجبل الشامخ الذي يراه ملتصقًا بالسماء، حرم المدينة التي تنام تحته كقطعة قش من لحظة الشروق، حتى كبار السن لم تتح لهم فرصة التمتع بها. شطر بفخامته وشموخه تلك البقعة النائمة على حافات النسيان إلى كيانين منفصلين. لم يرجع كل من ذهب خلف الجبل إلى تلك البقعة التي تنوء بالأسرار والتي تثير فضول الرجال، سيما الشباب. امتلأ الناس منها رعبًا منذ سنين عديدة، وإلى هذه اللحظة التي يسأل فيها ذلك الشاب المتحير والده، وتحت الضوء الراقص بهواء خفيف يحتفظ بشيء من برودة الشتاء وهدوء، تترامى فيه صدى الحبال الصوتية للوالد، يتقطع كلامه، يعجز عن الإيضاح أو البوح بإجابة شافية، ويتستر على خوفه وارتباكه أمام عائلته بابتسامة مرتبكة، يكاد أن يكشف سرها ضوء الفانوس الذي صنع بقضبانه علامة ضرب على الحائط، متأرجحة مع الضوء الراقص.

في تلك اللحظات، تذكر الأب بالتياع أباه الذي مات منذ أعوام. فهم صمته ورفضه الإجابة والاستعاضة عنها بالضرب والانتهار، أحس برغبة بالبكاء، ولكنه تجلد وآثر الصمت. ساد الهدوء الغرفة وراحت العيون تحملق في وجه الوالد الذي اختفى نصفه بالظلام. يستغرب الشاب من سكوت أبيه وعجزه عن إكمال الحديث الذي ملأته الخرافة والأساطير. يغرق الشاب اليافع في دهشة مقيتة، ويرتعد خوفًا ورغبة في استكناه ما وراء الجبل، وتمتلكه حيرة. تتلاشى أفكاره وتتقلص إلى مجرد التفكير في تلك البقعة، وتخيلها أحيانًا جنة تغري من يذهب إليها بعدم الرجوع إلى الأهل والأحبة، فيستهينون بالزوجات والأولاد والثروة فلا يعودون.

لم يتوقف عن جمع المعلومات التي يأمل منها الوصول إلى اليقين، مستهزئًا بكل ما كان يسير عليه قومه من أفكار وما يحملون من هدايا ونذور، التي يأخذها المجهول خلف الجبل. أسئلته التي كانت تكلفه التوبيخ والضرب أحيانًا أخرى لم يتوقف عنها، رغم أنها تجعله ممقوتًا بين أهل المدينة الذين حفظتهم سذاجتهم التي استكانوا إليها. أمامه خياران، كلاهما يؤديان إلى الموت.

قال لوالده متسائلًا:
– من يأخذ كل هذه النذور والهدايا؟ هل تعرفه؟ لم تره يومًا؟ ولم يأخذها ملطخة بالدماء؟ أيحب الدم؟

توقف عن الحديث، ينتظر رد والده الذي ينظر إليه بعين جانبية، لم ينبس، ثم انتقل نظره إلى صورة تمساح معلقة على الجدار. استرسل الشاب قائلًا:
– يدعون أنه يساعدنا... أنى له ذلك؟ ولم يحرق مزارعنا إن تخلفنا عن الوفاء بالنذور؟ لم لا تتصدى له؟

تلقى الشاب ردًا على أسئلته صفعة جاءت من حرقة السكوت، ليسقط من رأى مثله الأعلى بنقاط ضعفه. لم يفهم الشاب إلى هذه اللحظة بماذا يفكر والده، ولمَ يتصرف كأهل المدينة؟ لم تزده الصفعة إلا إصرارًا لمعرفة المزيد.

عرف الأب ما يروم إليه ابنه المندفع الذي سوف يسقط في المجهول كما سقط قبله الكثيرون. لم يكن تفكير ابنه بعيدًا عنه، فهو يرى شبابه فيه. الحيرة والخوف تتملكانه، حيرة عكسية ليست كسابقتها التي لم يأكل ثمارها، والخوف لا يزال نفسه، بل ازداد لأنه أصبح لا يهدده وحده بل ولده البكر. في تلك اللحظات، تذكر حديث والده عن جده الذي ابتلعته غابة الشروق وأسرارها التي حملته على كشفها، لتعود مع ذكرى أبيه وجده أسئلة شبابه بصيغة أخرى يؤطرها الخوف على ابنه:

– لمَ نحن هنا؟! ومن الذي رمى بنا إلى هذه البقعة؟! أليست هناك بقاع أكثر أمانًا وجمالًا؟

ليقفز على قرع الطبول التي عهدها منذ بدأ يميز الأصوات، والتي ميز صوتها هي الأولى، طبول جمع النذور والهدايا ليأخذ ما قسمه من قوته لذلك المكان القريب من الجبل، المزين بالفوانيس الكثيرة التي أحب مشهدها في طفولته والتي كرهها الآن. رمى ما جاء به بوقار، ثم عاد إلى منزله بخطى منتظمة، ويده ماسحة بشاربه الأشيب، متمتمًا بأسئلة لم يفكر بها من قبل:

– من أسماها بهذا الاسم؟ هل رآها من قبلنا؟ فمن ذهب إليها لم يعد! أمر عجيب... حتى ذلك الذي يأخذ الهدايا لم نره، هل هو من البشر؟

كز على أسنانه محدثًا نفسه:
– فلأصمت... فلأصمت... ثم عاد إلى تمتماته:
– لأصمت قبل أن أموت بهذياني الذي تخليت عنه منذ مجيء أول طفل رزقت به، وها هو نفسه يعيده لي! هذيان لم أصل به يومًا إلى نتيجة، ويريد هذا الذي تعلم الحديث قبل أيام أن يصل إليها... لكني سأوقفه عند حده بأي حيلة، لا أنتظر حتى أخسره.

عاد يتذكر ما جرى بينه وبين ابنه الذي خرج من المنزل غاضبًا. فكر بكيفية إقناعه بالعدول عن أفكاره التي لا يستطيع أن يضعها بإطار أسود ولا أبيض، مقلبًا كل الحيل قبل أن يصل إلى المنزل ويواجهه. رآه يجلس أمام النافذة المطلة على ذاك الجبل الشاهق، الذي احتفظ بخيط من ضوء الشمس المغادرة. وضع يده على كتفه، لم يلتفت الشاب إلى أبيه مخاصمًا له. تحدث الأب الحائر بأفضل حيلة له، لم يجد أفضل منها، مفكرًا عسى أن تأتي ثمارها وتريح ابنه من حيرته، تحدث بصوت راجف:

– سنعرف السر يومًا، يوم يسقط ذاك الجبل ويهدم كل شيء. علامَ نضحي بحياتنا؟ فإننا سنعرف الحقيقة بالبذل وبعدمه، فلا مناص الآن من الانتظار، فتلك حياة عهدناها، فما العيب أن نرضاها كغيرنا؟

التفت الشاب بحركة بطيئة إلى وجه أبيه الذي أخفى ضوء الفانوس الذي يقبع خلفه، لم ينبس... عاودته الرغبة الجاذبة في معرفة الأسرار، مقلبًا كلمات أبيه محاولًا الاقتناع بها دون جدوى... إنها فكرة جيدة ولكنها غير مقنعة، فاللهفة والفضول يكادان أن يقتلعاه من مكانه، والذهاب به إلى ما وراء الجبل للتعرف على ذلك المارد المجهول. يرفض كل الرفض الخضوع لذلك المجهول الذي لم يرَ وجهه يومًا، والذي تعرف عليه من قصص أقرب للخرافة وأساطير تناقلتها الأجيال.

– لا مناص من الذهاب وكشف ما أجهل، أو أموت! هكذا خلقت، لمَ عليّ السير على الموروث؟! لا أقتنع إلا بما تراه عيني! هكذا أنا منذ طفولتي، وأظنها معجزة نبتت في الأجل شيئًا ما، ما علي إلا استغلال هذه الطاقة الكامنة قبل فتورها.

في صباح ما، كسر الشاب جبل الخوف، وحطم قلوب أهله الذين أجهشوا بالبكاء عندما رأوا فراشه خاليًا. لم يجد نفعًا البحث عنه. لفظ الأب بعد يومين أنفاسه الأخيرة. كان الشاب يحث الخطى بإصرار، متجاهلًا ما سيتركه رحيله من ألم لأهله...

تذكّر منظر الجبل من خلف النافذة، ثم تمتم:
– لم يكن قبيحًا كما أراه الآن...

لم يمنعه الوهن والإنهاك من مواصلة المسير... وصل عند الظهيرة، لم يرَ سوى الظلام... ظلام ظلال الجبل... لتحتفظ عيناه بذلك الظلام. غرق في العتمة، وأدرك أنه قد جازف بأيامه المقبلات..


مشاهدات 78
الكاتب هشام سلام كاظم
أضيف 2025/03/11 - 2:10 PM
آخر تحديث 2025/03/12 - 12:33 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 272 الشهر 6090 الكلي 10567039
الوقت الآن
الأربعاء 2025/3/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير