قراءة في لوحة ( عود حبيبي) للتشكيلي ستار لقمان
رياض ابراهيم الدليمي
يتنقل التشكيلي ( ستار لقمان ) في أساليبه الفنية بين عدة مدارس ومذاهب فنية برشاقة ألوانه وخطوطه وفضاءاته ، فانه يفهم ويتقن ماهية التكوين وتشكلاته وأمزجته ، فيتخذ من بيئته وأثره الشعبي وموروثه التاريخي ثيمه بوعي وجمالية دون لبس وارباك في تجسيده وتصوريه لرؤاه وأفكاره وأخيلته .
يخوض ( ستار لقمان ) مغامرة التشكيل والتلوين بحدسه البصري وذائقته اللتان تنسجمان مع ذائقة المتلقي وهواجسه ، فانه قارئ يفهم الآخر وكيف يستفز ذاكرته ويجذبه الى ساحته وثقافته ؟ فهو غزل وحوار يشيّده ( لقمان ) بين لوحته ومشاهدها وهذا يعود الى قدرته على الفهم والخبرة والثقافة التي يمتلكها لتؤهله أن يكون فنانا من الصف الأول في الفضاء التشكيلي العربي .
لوحات ( ستار ) تجدها مزدحمة وصاخبة بالحياة والرموز الأيقونية والحركة والدراما ، لعله يحاول أن لا يترك فضاء لوحته دون ثيمة بصرية وحكاية ، وكأنه يوزع الأدوار التمثيلية الحكائية السردية على شخوصه وأشيائه ، بمعنى أخر يحاول أن يستغل كل جزيئة من السطح التصويري ليشغله ويعطيه شخصيته ودوره الوظيفي على السطح ليؤديه كما يراه وخطط له ، وهنا يضع المشاهد أمام مشهد درامي مسرحي سينمائي متكامل تشد الرائي وتجعله منغمسا فيه ومع خطابه الجمالي والتعبيري الرومانسي (انَّ ظهور مصطلح الرومانسية أو الرومانتيكية كان في ألمانيا في القرن الثاني عشر الميلاديّ، وكان يعني القصص الخيالية أو تصوير الأحداث التي تثير الانفعال، وكان هذا المصطلح يرتبط بالحب والمغامرة ويرتبط بالعفويّة، ثمَ فيما بعد أصبحت كلمة الرومانتيك تعني عكس الكلاسيك، لذلك انتمى أدباء كُثُر للرومانسية رغم أنَّهم عاشوا قبل ظهور هذه المدرسة فقط لأنهم عارضوا المدرسة الكلاسيكية مثل: شكسبير وكالديرون وموليير ودانتي، وغيرهم) وهذا ما لمسناه في جل أعماله عن الأهوار وفي البغداديات والشعبيات فأنها قصصا تؤرخ الحكاية باطار فني تعبيري ليشيّد تاريخا له ولإبداعه دون لبس فهو شاخص للعيان ولكل متذوق ومهتم .
ولكي نسلط الضوء على لوحته (( عود حبيبي) ألوان زيت على الكانفاس 90 ×70 cm)) في هذه اللوحة تجد كل شيء فيها يوحي بشكل مباشر عن حالة حب ولحظة رومانسية ووجد عارم ، فتلاحظ كل الشخوص المجسدة من المرأة التي احتلت المساحة الأكبر والحيز الأعم في لوحته والتي كانت مصدر اشعاع رومانسي الى خلفية اللوحة وجدارها فهي ثمة حالات توأمة لأحاسيس ومشاعر الألفة والحميمية بين البشر من جهة أخرى بين باقي الكائنات ، حيث شخص وصوّر حالة المداعبة والغزل بين الطيور وكأنه يحاول أن يصدر خطاب عشق لهذه الكائنات ليقول أنها حالة واحدة من الوعي السلوكي الطبيعي الخلقي أحدهما يكمل الآخر في لحظات التثوير للمشاعر الجميلة التي تؤكد على حالة الطمأنينة والألفة بين الكائنات والتي تكون طافحة ، أي أنه يود القول أن الحب والسلام والتعايش في الطبيعة لابد أن يقترن بالهدوء والسكينة بعيدا عن الصراعات .
لقد جسد المرأة في حالتها الرومانسية وسلط عليها الضوء وجعلها تتصدر المشهد التصويري وكل شيء في هذه المرأة يوحي الى حالة حب وعشق وترقب وانتظار ، فهي راقدة في وضع ينم عن لقاء قريب مع الحبيب لذا فهي شكلت المكان والجسد والروح والاكسسوارات لتهيئ المكان والنفس لهذا اللقاء المرتقب ، وتظهر ألة العود بالأسفل منها كآلة موسيقية معبرة ومنسجمة ومتماهية مع المشهد ، وخاصة قد جسد المرأة وهي تضع يدها بلمسة دافئة على جسد العود وليس على أوتاره وهنا فيه قصدانية لان اللعب هنا ليس على الأوتار كآلة عزف وانما هو تعبير عن لمسة يد لجسد العود فتحول العود من ألة تتمثل بجسد حبيب ، فهي لمسة عشق وشوق ومداعبة حميمة .
في سيميائياته كظاهرة لونية شكلية يجاهد ( ستار لقمان ) ومن سبقه العديد من الفنانين العراقيين أن يتركوا خصوصية وبصمة وهوية للفن الشكيلي العراقي كما هو الحال بالحركة التشكيلية في مصر وغيرها من البلدان العربية وخاصة اذا ما علمنا كانت للبيئة العربية والاسلامية والمشرقية مصدر الهام وكشف لفناني الغرب في مختلف الحقب الزمنية كحضارة وادي الرافدين ومصر والكنعانين كصور حيّة وخير شاهد على مدى تأثر فنانوا العالم بهذه الحضارات وكانت مستفزة لهم ولإبداعهم ، لذا يحاول الفنان العراقي منذ الربع الأول من القرن العشرين أن يشكل مشهدا فنيا تشكيليا هوياتيا عراقيا ، وفي هذا الصدد يؤكد الناقد (عادل كامل ) بقوله : (الحضارات الانسانية، وما قدمته المدرسة البغدادية التي اشتهر الواسطي كأحد أبرز مبدعيها عبد القادر الرسام وجواد سليم ، وأيضا التمثل السليم للمنجز الفني الأوربي، والانفتاح على روح العصر.
وأقرب المؤثرات الثقافية على نهضة الفن في العراق، تمثلت بالتأثيرات التركية والبولندية. اذ انتقلت التأثيرات التركية عن طريق رسامين هواة، تعلموا الرسم في المدارس العسكرية العثمانية، وكان عبد القادر الرسام أحد أهم هؤلاء، الذي اتسمت أعماله بالإصالة والغزارة الانتاجية، وترك ارثا كبيرا من اللوحات الفنية التي صور فيها الطبيعة البغدادية الساحرة والريف البغدادي. وكان الرعيل الأول يضم كل من: (عثمان بك وناطق مروة وشوكت الخفاف ومحمد صالح زكي وحسن سامي وأكرم القيمقجي وناصر عون والحاج محمد سليم (والد الفنان جواد سليم) والفنان عاصم حافظ، وآخرين ..) لم يتم التوثيق لنتاجاتهم الفنية، و(كانت مواضيعهم تعتمد على تصوير الطبيعة والمشاهد اليومية باسلوب تقليدي أو طبيعي ليس له وضوح أو سمة صاغية ) وقد بدأت عملية تأسيس حركة الفن التشكيلي العراقي الحديث على وجه التحديد، في اوائل الثلاثينات من القرن الماضي).
ويلاحظ أن الفنان ( جواد سليم ) يعد أول من أوجد مشروعه الثقافي الفني البغدادي بشكل جاد ومعمق وراسخ ، رغم المحاولات التي سبقته ، وتأتي تجربة ( ستار لقمان ) ليس بعيدا عن هذا السياق الفني أو النسق الثقافي .
يلمس المشاهد للوحة ( عود حبيبي ) مدى دقة تعبيرية اللون التي لا تنفك في سيميائيتها ودلالاتها عن فكرة النص ، وخوصا فهي تعبر بشكل جلي ودون لبس عن الخطاب المراد له في لوحته ، فقد جمعت بين عدة ألوان صريحة حارة وباردة أو الوان ممزوجة مثل (الأحمر والأبيض والبني والأزرق والأخضر والبنفسجي وتدرجاتها بين الفاتح والغامق والبريق أو المعتم أو المشع ) ، اللوحة لديه بمثابة كرنفال حب وألوان وطبيعة عراقية بامتياز ، وخاصة اذا ما تأملنا الى الديكورات والاكسسورات والأدوات والأزياء والحلّي الموزعة عل السطح التصويري في اللوحة بعناية لتمثل البيئة العراقية وخصوصيتها وموروثها فتعطي بعدا ثقافيا للهوية بكل أبعادها .