أذن وعين
في تذكّر إنقلاب (البعث) الأول
عبد اللطيف السعدون
في عصرية تشرينية موحشة تجاوزتها عقود ستة كنت في مبنى فرع بغداد لحزب البعث في الأعظمية أسجل حديثا للإذاعة مع الأمين العام للحزب ميشيل عفلق الذي قدم الى العراق لفض خلاف نشب بين الرفاق العراقيين، وكان قد فرغ للتو من اجتماع عقده مع قيادة الفرع، ولم يقل «القائد المؤسس» أكثر من بضع كلمات عن ثقته في قدرة الحزب على تجاوز العقبات التي تواجهه، لكنني لمحت مسحة تشاؤم على وجهه، واستوقفتني واقعة صغيرة حدثت أمامي وأنا أتهيأ لغلق جهاز التسجيل والخروج فقد رن جهاز الهاتف ورفع السماعة أحد الحضور ليسلمها الى عفلق الذي اجاب على المكالمة باقتضاب ثم التفت الى الرئيس أمين الحافظ ليخبره أن الرفيق صالح عماش (عضو القيادة القطرية) يدعوهم الى العشاء تلك الليلة، وقبل أن يعلق الحافظ صرخ نجاد الصافي عضو قيادة الفرع بوجه عفلق: «لا.. لا يمكن أن تذهبوا الى عماش!»،، كان عماش محسوبا على جناح العسكريين المعترضين على سلوك «الحرس القومي»، خرجت من غرفة الاجتماع وأنا أرصد رد فعل عفلق الذي لم ينطق بكلمة لكن ملامحه كانت توحي بالغضب والخذلان، في حينها ارتسمت أمامي صورة تلميذ يصرخ في وجه معلمه الذي لم يدربه على قواعد التعامل مع معلميه، كما خطر لي آنذاك، وأنا أسمع ما كان يدور أمامي من نقاشات، أن «الرفاق» العراقيين لم يكونوا ليتقنوا فن ادارة الأزمات ربما لأنهم لم يخوضوا نضالا علنيا بما يكفي، انما نشأوا وتعلموا (الثورة) في الأقبية والبيوت السرية والسجون، وأقنعتهم فتوتهم وحماسهم بأن هذا هو فقط ما يحتاجونه لكي يحكموا بلدا يضم آنذاك أكثر من عشرة ملايين، كل فرد منهم يمكنه أن يشكل حزبا سريا لوحده!
تبادل الشتائم
بعد يوم أو يومين من هذه الواقعة سقط انقلاب البعث الأول الذي يتذكره العراقيون هذه الأيام ومازالوا ينبشون تاريخه، يختلفون على معانيه ودلالاته، ويتبادلون الشتائم والاتهامات حول ممارساته ، وبعضهم يريد محاكمته بمنطق غير منطق زمانه، أو ينظرون اليه بأدوات لم تكن حاضرة في ذلك الزمان، أو يقيمونه بمعزل عن عوامل لم تكن مرصودة في حينه، بعضهم سخر من اطلاق الحزب تسمية (عروس الثورات) على الانقلاب مع أن تلك التسمية كانت لها دلالتها في ذلك الزمان اذ انتزع البعثيون السلطة من عبدالكريم قاسم، وكان عددهم في كل العراق لا يتجاوز الثمانمئة، وأعمار معظمهم لا تتجاوز الثلاثين، وعمر الحزب في العراق أقل من عقدين، وعلى سبيل المقارنة فقط قدر عدد الشيوعيين العراقيين في حينه مليونا قابلا للزيادة لكنهم لم يكونوا ليمتلكوا اندفاع البعثيين الشباب وتوقهم للمغامرة، مع أنهم أصحاب تاريخ يمتد لعقود وخبرة عريضة في السيطرة على الشارع والتحكم به.
دلالة العنفوان والجرأة لدى البعثيين حملت معها دلالة القصور وعدم النضج أيضا، ربما الدلالة الأخيرة هي التي أجهضت (الثورة) الموعودة، ووئدت الآمال التي كانت معلقة عليها، ومثلها مثل جمهورية عبدالكريم قاسم التي لم تعمر سوى أربع سنوات ونصف كانت غارقة في العواصف مليئة بالمفارقات، تلك العواصف والمفارقات أنهت دور القوى المدنية التي كانت عاملا حاسما في نجاح انقلاب/ ثورة الرابع عشر تموز الذي سحق النظام الملكي وأقام الجمهورية الأولى، كما نقلت الفعل للعسكريتاريا المؤطرة في تنظيم «الضباط الأحرار»، الذين سرعان ما دخلوا في مماحكات فيما بينهم، وبينهم وبين رجال الأحزاب كانت نتيجتها وضع القرار عمليا بيد عبدالكريم قاسم الذي تحول «زعيما أوحد» بحسب اللقب الذي أعطي له من قبل أنصاره.
تظل هناك ملاحظتان، الأولى ان انقلـــــاب البعث الأول لــــم يقدر له أن ينجز، ربما بسبب قصر عمره الذي لم يتجاوز تسعة أشهر أيــــــا من الأهداف التي روجها انما وجــــه كــل اهتمامــه لاجتثـــــــــــاث خصومه مـــن الشيوعيــــــــــين والقوميين علـى النحو الذي نعرف، والثانية هي أن تجربة حكم الانقلابيين حظيت بعد سقوطها بعديد من مراجعات وانتقادات حتى من الذين قادوا الانقلاب وتسلموا السلطة بعد نجاحه لدرجة تخوين بعضهم للبعض الآخر، وآخر ذلك اشارة صدام حسين الذي شارك في محاولة اغتيال قاسم والذي عاد بعد أكثر من عقديـــن ليصفه بأنه «شخصية وطنية لم نعطها فرصة للحكم، وإننا في معاداته لم نكن ناضجين. وقد صرنا نعرف الآن عنه أشياء لم نكن نعرفها.