من أبي ذر الغفاري: لا طاعة لعمائم السياسة والعبودية
رائد فؤاد العبودي
تتوارث الزعامات في العراق، كما يتوارث رؤساء الحكومات الفساد وانعدام الخدمات والتفريط بسيادة الوطن .. فوضى عارمة، معززةً بالعنف والعناد، وانهيار التعليم، وانحدار المستوى الثقافي إلى أدنى مستوى مرّ به العراق على الإطلاق.
هذه الفوضى، المدعّمة بالعنف، لم تأتِ بعد سقوط النظام في 2003، بل هي امتداد لنهج العنف والفوضى (الثورية) التي أرستها انقلابات ما بعد الملكية، والتي لم تفرز سوى حكومات مقموعة أو قامعة. أما الفارق الوحيد بين ما قبل 2003 وما بعدها، فهو أن الفساد بعد الاحتلال صار مشروعًا، مبرمجًا، ومغلفًا بعباءات الدين، وبتواقيع من حضروا (مؤتمر لندن).
ولم يكن الدين بمعزل عن هذا الانحدار، بل صار أداة من أدواته، حيث ظلّ الدين في العراق يتقدّم الصفوف، لا بوصفه محرّكًا أخلاقيًا وموجّهًا روحيًا، بل بوصفه وسيلة للسيطرة والاستحواذ من خلال قدسية مغلّفة بأوهام الورع والتقوى، اعتلاها من زعموا الانتساب إلى الله كذبًا، وإلى آل بيته زورًا.
وللأسف، أكثر أطياف المجتمع العراقي التي سلّمت رقبتها لهذا التسلّط باسم القداسة هم نحنُ الشيعة الذين صُدمنا بتحوّل مرجعيات الدين من حاضنة إيمان إلى ساحة إخضاع، ومن منبر نصح إلى مركز قرار لا يُناقش ولا يُرد.
والحقيقة ، لا الســـــــــــــنة، ولا المسيحيون، ولا الكرد، ولا غيرهم، سلّموا مصيرهم لرجل الدين كما فعلنا نحن الشيعة . لقد رفعنا العمامة إلى مقام العصمة، حتى فاقت عند البعض مقام الأنبياء ، في سابقة لم تحدُث حتى مع رسول الله (ص)، الذي دعا إلى الشورى، ولا مع عليّ بن أبي طالب (ع)، الذي حثّ الناس على ألّا يُطيعوه طاعة العبد، بل محاججته ونصحه إذا أخطأ.
حقوق شرعية
اليوم، تتحوّل مخالفة رجل الدين إلى جريمة، ومساءلته إلى وقاحة، والاحتجاج على قراراته إلى خروج عن الدين. فمنذ متى كان الدين رافضًا للاختلاف؟ ومنذ متى صار الصمت فضيلة حين يُذبح الفقراء في الحروب، وتُنهب أموال الشيعة باسم (الخمس) و(الحقوق الشرعية) و(مجهولية المالك)، بينما يُمنع الناس من مجرد السؤال عن مصادر المال، كم جُمعَ منه وكم صُرف وأين ذهب ومتى ؟ والاحتجاج على أبناء القيادات الدينية الذين يتنقلون بين لندن وباريس، بينما يُدفن أبناء الفقراء في مقابر النجف وكربلاء؟
لقد جرى تسويق فكرة أن رجل الدين هو (باب الله) ، الامر الذي فتح الباب أمام تسويق الطاعة وتكفير العقل. وأصبح رجال الدين في العراق يمارسون سلطتهم، لا على منابر المساجد فحسب، بل على الديمقراطية وحق الانتخاب الحر، وفي اختيار رئيس الوزراء، وتوزيع الثروات، وفرض الولاءات، بل وحتى في مصير الاحتجاجات.
من الذي أفتى بسحق شباب تشرين؟ من الذي بارك الميليشيات ورفعها إلى مصاف (النيابة الإلهية)؟ من الذي صمت على دماء الشيعة التي سالت على يد (شيعة السلطة) في بغداد والناصرية والبصرة؟ أليست هي العمائم التي كانت تزهو بمنابرها حين يُذلّ أبناء الجنوب والفرات الأوسط باسم الطاعة؟ سياسة التجهيل التي قادها التيار الديني الشيعي لم تكن عفوية، بل ممنهجة، تهدف إلى إنتاج جيلٍ مكسور الإرادة، عاجز عن التفكير، خائف من السؤال. جيلٌ يرى في كل اختلاف كفرًا، وفي كل محاولة للنقاش فتنة. جيلٌ لا يعرف من الحسين عليه السلام سوى المظلومية والدم، ولا من عليّ عليه السلام سوى السيف والحروب، ولا من الدين سوى الخنوع للمعمم وإن ضرب ظهرهم وسفههم وشتمهم!!
الخطر الحقيقي اليوم لا يكمُن فقط في سيطرة رجال الدين، بل في التغيّر الفكري الذي اصاب التيار الشيعي نفسه ، فقد تحوّل الوعي الشيعي من وعي ثوري يرفض الظلم، إلى وعي خاضع يقبل الاستعباد. فالحسين (ع) الذي كان رمزًا للثورة صار وسيلة لإخضاع الناس، وعليّ (ع) الذي كان صوتًا للعدل، صار مجرد اسم يُستخدم لتبرير الفساد والظلم في الخطب.
وكم هو مؤلمٌ أن نرى مشهدًا يتكرر، حين يتحول خطاب الزعيم الديني إلى منبر للاستهزاء والإهانات العلنية، بل وحتى السب الصريح، الموجّه إلى جمهورٍ شيعي عريض بعد ان اصبحت تلك الزعامات الدينية لا تخشى حسابًا، ولا تستحي من إذلال الناس جهارًا، بل وتجمعهم بالآلاف ثم تتركهم بحجج واهية كعدم السكوت والإصغاء اثناء الخطاب !!
طقس مقدس
والأشدّ ألمًا، أن هذا التيار العريض من الجمهور الشيعي ، رغم ما يلقى من تحقير وتهوين، يعود المرة تلو الأخرى، يحمل الأطفال على الأكتاف، ويرفع صور الزعيم الذي أهانه بالأمس، وكأن الذل أصبح طقسًا مقدسًا يُؤدّى بخشوع، وكأن الصمت أمام القسوة فضيلة، والتبرير للإهانة جزء من العقيدة.
لكن الأمل، رغم كل شيء، لم يمت. فجيلٌ جديد بدأ يستيقظ. جيلٌ لم يعد يصدّق أن الله يفوّض أحدًا للحديث باسمه بلا حساب. جيلٌ بدأ يسأل: أين أموال الشيعة؟ أين الموقف من القتلة؟
من الذي أفتى بقتل الشيعة حين ثاروا؟ جيلٌ يستعيد روح أبي ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر، ويستعيد السؤال الجوهري: لماذا نُطيع من لا يسمع؟ ولماذا نخاف ممن لا يرحم؟
علينا كشيعة ان نعود الى عقولنا، لا إلى العبودية باسم الطاعة، وهذه أولى خطوات استرداد التشيع من براثن التسلّط. لأن الله لم يأمر، في كتاب ولا سنة ولا سيرة لأهل البيت، بوكلاء يُرهبون الناس ويستعبدونهم ويُذلونهم، وإنما أمر بعبادٍ يعقلون، يناقشون، يثورون، ويُحبّون.
إن أبا ذر، المُتشرب من روح النبوّة والناهل من تعاليم عليّ بن أبي طالب عليه السلام، يهمس في أذن شيعة العراق: تحرروا يرحمكم الله ، فأنتم لستم ظلّ عمامة، ولا صدى لفتوى… أنتم صدى الحسين حين قال: (مثلي لا يُبايع مثله)، وأنتم دمعة عليّ حين سُلب العدل، وأنتم نار كربلاء التي لا تخمد… فكيف لكم أن تركعوا؟ وكيف لكم أن تُستَعبَدوا باسم من ثار كي لا يُستَعبَد؟