أذن وعين
في تذكّر زمن أم كلثوم
عبد اللطيف السعدون
كنت، مثل غيري من أبناء جيلي مولعا بأغنيات أم كلثوم أحرص على أن لا تفوتني حفلة من حفلاتها التي اعتاد راديو القاهرة نقلها عبر الأثير، وعندما عملت في إذاعة بغداد بداية عقد الستينات وجدت الفرصة في أن أعطي أغنياتها المكانة التي تستحقها في البرنامج اليومي، بالطبع لم يكن عشريني مثلي، وفي مستهل حياته العملية ليطمح لأكثر من ذلك، أما لقاء أم كلثوم والحديث معها، فلم يخطر في بالي أبدا!
ما لم يخطر في البال حصل في مصادفة نادرة اذ كنت أواسط ستينيات القرن الراحل ضمن فريق يتلقى تدريبا في إذاعة القاهرة عندما كلفنا بالتفاوض على قيام التلفزيون العراقي بالحصول على الحق الحصري لنقل وتسجيل أغنية جديدة لها، وكان علينا اللقاء بالست التي قيل لنا انها وحدها التي تبت في أمر كهذا، وبالفعل ذهبت والزميل الراحل المخرج عبد الهادي مبارك، يرافقنا مندوب من التلفزيون المصري، الى «فيلا أم كلثوم» في شارع أبي الفدا بالزمالك. وفي صالة الاستقبال التي قادنا البها مهندس الصوت محمد دسوقي الذي عرفنا فيما بعد أنه ابن شقيقتها، ومدير أعمالها، أطلت «الست» بهيئتها المهيبة، في حينها لم نكن نصدق أننا في حضرتها، وأنها تبادلنا الحديث، قالت لنا انها تحب العراق، وعلى صلة طيبة بأسر عراقية معروفة، وأن التمر والرز العنبر يصلانها من بغداد كل عام، وتمنت لو تسنح لها الفرصة لزيارة بغداد مرة أخرى بعد ما كانت زارتها في سالف الأيام مرتين، ولم تنس أن تبلغنا سلامها للعراق وللعراقيين قبل أن تتركنا مع دسوقي، مشيرة الى أنه سيتولى التفاوض معنا.
أبلغنا دسوقي أن أم كلثوم تطلب ثلاثين ألف جنيه إسترليني، أردف: «يمكن لكم أن تحولوا المبلغ مباشرة للخزينة المصرية حيث أن الست تبرعت بكل عوائد العقود الخارجية لدعم المجهود الحربي»،عرفنا أيضا فيما بعد أنها خصصت جزءا مما يصلها بالعملة المحلية لإعانة أسر فقيرة من موطنها الأول «طماي الزهايرة»، ترتبط معها برابطة قرابة أو جيرة.
بحث استقصائي
هذه الواقعة تصلح لمراجعة حكم فيه قدر من التعسف أطلقته فرجينيا دانيلدسون الأميركية المتخصصة في موسيقى الشعوب، في بحثها الاستقصائي الذي ترجمه الأكاديمي العراقي المغترب د. إبراهيم السعيد، قالت دانيلدسون ان أم كلثوم «امرأة أعمال فطينة كونت نفسها من خلال حسن ادارتها لأعمالها التجارية، (...) وكانت تطالب بالكثيرفي مفاوضاتها المتعلقة بعقودها وارتباطاتها المالية، وكانت تصر على استلام أعلى مورد مالي دون أن تتردد أن تكون مفاوضة شديدة البأس، ودون أن تخشى أحدا عندما تقول: لا، وقد جنت أجورا عالية عن أعمالها الفنية.» كنت أتمنى لو كانت دانيلدسون أكثر دقة في تمحيص الحكايات التي سمعتها. هي أيضا رأت في أم كلثوم «اسطورة باعتبارها واحدة من الناس، وباعتبارها مصرية حقيقية، ومثقفة عربية»، ونقلت عن باحث مصري «ان أم كلثوم لم تكن شخصية سياسية، غير أنها بالتأكيد عاشت في بيئة سياسية خالصة، ولذلك واضبت على الاعتزاز بالكبرياء الثقافي العربي والمصري في الوقت الذي اعتقد البعض أن قيم الماضي يجب أن تخضع للنقد، وفي مواجهة مثل هذا النقد تراجعت أم كلثوم بصمت الى موقعها الأصلي كمطربة، ولم تعد الصوت السياسي الذي كان المفكرون الإصلاحيون يعقدونه عليها، ورغم هذا فقد كان لأغانيها وقع خاص لأنها خلقت عالما عاطفيا مفاده أن على المرء أن يترك كل شيء لقدره!»
تضيف دانيلدسون «تبقى أم كلثوم، مثل جمال عبدالناصر، جزءا من العصر الحلو المر الذي مضى، ومن حين لآخر يعبر الناس عن حنينهم الى الماضي الذي مثلته أم كلثوم، كما هي الحال مع الآخرين الذين يحنون الى عبد الناصرلأنهما معا رمزان لقيم وروح المجتمع والثقافة المصرية، وهي أيضا صوت مصر، وتبدو وكأنها صوت فرد مدهش، وصوت جماعي مثير تم بناؤه في فترات تاريخية متعددة».