الإسلام والديمقراطية بين الإسلاميين والعلمانيين
محمد عبد الجبار الشبوط
طرفان يرفضان مقولة امكانية التوافق (او التوفيق) بين الاسلام والديمقراطية التي انادي بها علنا منذ مقالي المنشور في صحيفة «البديل الاسلامي» في شباط من عام 1990.
الاسلاميون المتطرفون الذين يقولون ان الاسلام الذي يقول بحاكمية الله يرفضون الديمقراطية التي تقول بحاكمية الشعب.
والعلمانيون المتطرفون الذين يقولون ان الديمقراطية تقول بسيادة الشعب و الاسلام الذي يقول بحاكمية الله لا يمكن ان يتوافق مع الديمقراطية لهذا السبب.
والنتيجة لا هؤلاء يقبلون الديموقراطية ولا اولئك يقبلون الاسلام. والنتيجة ايضا قطع جسور التواصل بين العلمانيين والاسلاميين في مجتمع اسلامي مخضرم كالمجتمع العراقي. والامر برمته ينطوي على سوء فهم مزدوج: سوء فهم للديمقراطية وسوء فهم للاسلام.
وهذا اشكال مهم يجب حله، اذا تم حله امكن القول بان الاسلام والديمقراطية يمكن التوفيق بينهما. وان تعذر ذلك، علينا ان نبحث عن طرق اخرى.
لفهم موقف الاسلام من مسألة الحكم عامة ومسألة الديمقراطية خاصة علينا ان نفهم التكييف السياسي للانسان كما يعرضه القران والنصوص التأسيسية الاخرى. وهذا امر فهمه مفكرون عظام مثل الراغب الاصفهاني من القدماء ومحمد باقر الصدر من المحدثين. وانا اتبنى وجهة نظرهم التي سوف اعرضها في هذا المقال. ولا معنى لمحاججتي بوجهات نظر اخرى مخالفة لانني لا اتبناها. كما لا معنى لاثارة تساؤلات حول بعض الاحكام الشرعية في الاسلام مثل قطع يد السارق او الجزية او ما شابه لاننا نتحدث عن مباديء وليس عن احكام. والاحكام خاضعة للقيم العليا بل هي الادوات التنفيذية للقيم العليا. وهذا مبحث مهم لكنه خارج نطاق موضوعنا الحالي. فلا يشغلن القاريء العزيز باله به.
مركز الانسان
يمكن انتزاع المركز السياسي للانسان في الاسلام من عدد من الايات القرانية الكريمة في مقدمتها قوله تعالى :»»وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة 30)، وهو اساس القول بحاكمية الشعب وسيادته، وقوله تعالى: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» (البلد 10)، وهو اساس القول بحق الانسان في تقرير مصيره؛ وقوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ». (الاسراء 70)؛ وهو اساس القول بحقوق الانسان؛ وقوله تعالى:»وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (الذاريات 56) وهو اساس القول بالحرية؛ وقوله تعالى:»وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ» (الشورى ٣٨)، وهو اساس القول بالمشاركة السياسية، وقوله تعالى:»أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (الحج 39) وهو اساس القول بمشروعية الثورة على الظلم؛ وقوله:»لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوثقى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة 256) وهو اساس القول بالحرية الدينية؛ وقوله :»يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ» (النساء 59)، وهو اساس القول بالانتخابات؛ وقوله تعالى :»فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ، بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ» (ال عمران 195) وهو اساس القول بالمساواة بين المرأة والرجل؛ وقوله تعالى:»يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ، لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (المائدة 105) وهو اساس القول بالمسؤولية الفردية؛ وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القربىٰ وينهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل 90)، وقوله:»أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة 8) وهو اساس القول بالعدالة؛ وقوله تعالى:»يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (الحج 77) وهو اساس القول بالخير العام. وغير ذلك الكثير من الايات القرانية، مما يعد من اساسيات الديمقراطية ولوازمها.
ومن بين كل هذه القيم تحتل فكرة «الاستخلاف» الموقع المركزي في منظومة القيم القرانية الحافة بالمركب الحضاري، وهي تشكل نقطة الالتقاء المركزية بين الاسلام والديمقراطية.
يقول العلمانيون ان الحاكمية للشعب، ومصدر هذا القول اجتهادهم العقلائي. ويقول الاسلاميون ان الحاكمية لله. ومصدر هذا القول ايمانهم الديني. وانا اقول: ان الله صاحب الحاكمية المطلقة قد اوكل الى الانسان (الشعب) منصب الحاكمية يوم قرر جعل الانسان خليفة. والخليفة ( وهنا المقصود هو مجموع الشعب لا فردا بعينه) هو الحاكم والمدبر. ومصدر كلامي هو القران الكريم. وبه يلتقي العقلائي بالديني.
الاصفهاني والصدر
وقد انتبه الراغب الاصفهاني ( 343هـ / 954م - 502 هـ / 1108 م) صاحب كتاب «المفردات في غريب القران» المشهور الى محورية الاستخلاف في كتابه «الذريعة الى مكارم الشريعة» الذي وظف فيه نحو 450 اية قرانية و 200 حديث من اجل اعادة بناء منظومة القيم القرانية على اساس الاستخلاف، كما لاحظ محمد عابد الجابري. وقد عرّف الاصفهاني «المكارم المطلقة» بانها هي اسم لما لا يتحاشى من ان يوصف الباري جل ثناؤه بها او باكثرها نحو الحكمة والجود والحلم والعلم والعفو، وان كان وصفه تعالى بذلك على حد اشرف مما يوصف به البشر. (ص 5) وقال انه باكتساب المكرمة يستحق الانسان ان يوصف بكونه خليفة الله تعالى المعني بقوله عز وجل: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة 30) (ص 6) وعرّف الخلافة بانها «الاقتداء به تعالى على الطاقة البشرية في تحري الافعال الالهية» (ص 36) وان الخلافة «تستحق بالسياسة» (32) وجعل العلم شرط الخلافة (ص 38) كما ان العقل هو «اشرف القوى وبه صار الانسان خليفة لله عز وجل في العالم» (41).
يبدو لي ان السيد محمد باقر الصدر هو اعمق واوضح من فسر اية الخلافة في سورة البقرة لجهة المضمون الديمقراطي الذي تستبطنه. فقد قال: ان الخلافة الربانية للجماعة البشرية توفر فرصة النمو الحقيقي الذي عرّفه بانه «ان يحقق الانسان الخليفة على الارض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعا في الله»، حيث تكون «صفات الله واخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حد له مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة واهدافا للانسان الخليفة» وقال : «ان الخلافة هي اساس للحكم، حيث اناب الله الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون واعماره اجتماعيا وطبيعيا، وعلى هذا الاساس تقوم نظرية حكم الناس لانفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله.» وهذا عين ما تقول به الديمقراطية كما نعرفها اليوم. لهذا امكننا القول بان الأسلام والديمقراطية متوافقان compatible وان التناقض الذي يزعم وجوده بعض الاسلام وبعض العلمانيين غير صحيح، وغير دقيق، ويتنافى مع العلم الصحيح الذي هو «ادراك الشيء بحقيقته»، كما عرّفه الاصفهاني (ص 102).
وهذا هو ما يؤدي به العلم الصحيح بالاسلام والديمقراطية معا، المتحرر من الاحكام المسبقة والقوالب العقلية او الفكرية او المعرفة الجاهزة.
وخلافة عدم ادراك للإسلام والديمقراطية بحقيقة احد الطرفين او حقيقتهما معا.
الانتكاسة التاريخية
مقابل هذا نستطيع ان نلاحظ ان هذا النمط من فهم الايات القرانية لم يتسيد الموقف في الفضاء الثقافي والفكري والسياسي للعالم الاسلامي منذ حصول الانتكاسة الكبرى للمفاهيم القرانية على يد معاوية ويزيد (التي تحدثت عنها في مقال سابق) وتحول الخلافة الاسلامية الى حكم عضوض، دكتاتوري وراثي مستبد يزعم ان الحاكم هو ظل الله في الارض (قالها بصريح العبارة ابو جعفر المنصور ولمّح اليها عثمان بن عفان) حتى جاء امثال النائيني والطباطبائي والصدر فنفضوا غبار السنين عن فكرة الاستخلاف العظيمة التي تتضمن كل المباديء الديمقراطية مع زيادة في الضمانات القيمية والاخلاقية على حسن التطبيق وعدم الانحراف ، كما قال محمد باقر الصدر.
وما زال المجال مفتوحا لمزيد من التأصيل والتأسيس لهذه الفكرة من اقل اقامة نظام حكم مستقر على اساس القيم القرانية والمباديء الديمقراطية حيث المشاركة السياسية الحقيقية والحرية المسؤولة في اطار القانون، منعا لظهور الاستبداد والدكتاتورية مرة اخرى.
ختاما، كنت احسب ان النقاش بل الجدال حول هذا الموضوع قد اصبح قديما، وان الذهنية العراقية بشقيها الاسلامي والعلماني قد تجاوزته، الا انه يبدو ان ذيول الاختلاف حوله مازالت قائمة عند البعض، مما استوجب كتابة هذا المقال الذي استعدت فيه الكثير مما كتبته خلال السنوات الثلاثين ونيّف الماضية.