الجمع بين الواقع والمتخيل في (دفوف رابعة العدوية )
محمود خيون
عندما كتب فلاديمير نابوكوف رائعته( لوليتا ) كان في حالة جنونية بسبب عشقه لتلك الفتاة الصغيرة التي كان يشبهها بالنار المتقدة في روحه..واعتبرت من الروايات التي يلفها الخيال والتشابك في احداثها وما رافقها من غموض غلف حجم المشاعر الإنسانية لكل فرد عاش المعاناة الحقيقية مع ذاته من دون أن يجد مخرجا لتلك الصراعات التي تتقاذفه كأمواج البحر، وهو على الرغم من ذلك ظلت تلك الرواية شاخصة في عقول و نفوس الكثير من المختصين والمهتمين بهكذا أعمال كبيرة...حتى وصل الأمر إلى أن تتحول إلى عمل سينمائي ومسرحي وادرجت كأفضل(100) رواية واحتلت المرتبة الرابعة في قائمة المكتبة الحديثة.
معاناة البطل
ولم تقتصر على عصر معين بل صارت زاخرة على مدى كل العصور... اعادني ذلك وانا انهي قراءة رواية( دفوف رابعة العدوية ) للكاتب عبد الستار البيضاني وهي تحمل نفس المعاناة لبطلها الذي وعلى ما أظن هو كاتبها، فالكثير من اللغة والتوصيفات التي جاء بها تدل على ملامح شخصيته التي عرفتها ومنذ أكثر من خمسين عاما، فهو يصور أجمل تصوير معاناته مع المرأة زوجة سائق القطار النازل إلى البصرة والصاعد إلى الموصل وهي تدسه بين فخذيها فيصف ذلك الفعل بالقول :- وكما كانت تفعل معي جارتنا وانا طفل إبن الخامسة، عندما طلبت أمي أن ابات معها لانها تخاف أن تبقى وحدها في غرفتها، حتى بعد ان اندسسنا في فراشها تحت اللحاف، وبدأت اللعبة بسؤال بريء عندما نزعت فوطتها وتدلت ضفيرتها الطويلة من كتفها على وجهي، ازحتها وانتبهت إلى بياض صدرها الذي يشبه لوح الخزف، على ضوء الفانوس النفطي، كنت أنظر إلى عينيها وهي تتقد بشيء غريب وانفاسها تتلاحق، خفضت بصري من عينيها إلى صدرها، وعند نهاية الرقبة في أعلى الصدر استوقفني وشم أخضر مشع بحجم حبة التوت، وقالت بكلمات متسارعة( أكلها بفمك..بفمك..) لعقت حبة التوت الخضراء بلساني لاتذوق طعمها ،فأرتعش جسدها، وندت منها شهقة حادة ضمت رأسي إلى صدرها وارتبكت الكلمات في فمها حتى وجدتني انزلق إلى تحت جسدها بين ساقيها..بهذا التوصيف المرهف والمتلاحق يحدثنا الكاتب عبد الستار البيضاني عن تجربة بطل روايته الأولى مع النساء ..بعد أن اتهمه عدد من الأصدقاء بالجبن لأنه لم يقتحم( قبس ) تلك المرأة التي كان يعشقها من دون البوح بذلك العشق..فهو كان لا يهمه من تلك الانشغالات شيء بقدر ما كان يهمه أن يعيش بسلام مع الحالة التي تعطي معنى لحياته التي خسر أكثر من نصفها في الحروب والحصارات والخوف والمطاردات...وهو على الرغم من ذلك يبرر علاقته بتلك المرأة بأنها من أصدقاء العمر ولا شيء يضاهي جمال وجهها غير جمال روحها ومعنى إسمها( قبس) الذي يبعث إلى داخله ضوء حب الحياة...فهو متعلق بها حد الجنون مثلما ظلت صورة رابعة العدوية معلقة في مخيلته بعد أن جسدت دورها الممثلة نبيلة عبيد في فيلم سينمائي مازالت أحداثه تمر أمامه في كل لحظة..حتى أنه بدأ يسأل نفسه( الذي أريد أن أعرفه، طرق البصرة قادتني إلى رابعة أم إلى قبس؟!..لقد تمكن عبد الستار البيضاني أن ينسج ذكرياته والعودة بها من الماضي إلى الحاضر وبطريقة التداعي وبأسلوب سردي وان يكون من مجموعة الأحداث شريط سينمي متكامل تحمله قدرة عالية من البناء الفني المقتدر على تطويع مفردات اللغة لبناء الجملة المتراصة لايدلوجية الكتابة والتلويح لصور أكثر وضوحا لدورة أبطال الرواية ومن ثم التنقل بهم من مكان لآخر ومن زمان إلى أزمنة ماضية حملت في طياتها كل معاناتهم من جراء الحصارات والويلات التي خلفتها الأحداث بكل ما تحمله من مأساة ودمار روحي ونفسي على جميع من عاش تلك المراحل المهمة من تأريخ البلاد... وإزاء ذلك فالكاتب يسترجع ذاته في مواقف كثيرة منها ما شاهده لراقص الباليه الروسي التي بدت حركاته نوعا من اللطم في موكب عزاء عاشوراتي، هو انيني ولطمي على ما ضاع من العمر في تراب السواتر، وعلى عدم مشروعية حلمي بها، أو طموحي معها لسبب بسيط هو أنني بعد يومين سوف التحق بوحدتي العسكرية، واخضع لاضطهاد نائب ضابط يعذبني باستعارة مشاعري.. وهنا تعمد الراوي أن يعيد إلى أذهان القاريء ما كان يدور في مخيلته عن تلك المرأة التي سلبت عقله وسكنت مفازات روحه وقلبه فهي مثل رابعة العدوية مع الغناء والرقص الذي ينسب اليها فأنها نست لذة الجسد وعاشت في اتصالها الروحي...مثلما كانت رابعة العدوية في داخلها حب عظيم ربما لانانية مفرطة ،او نرجسية عالية أو نتيجة انكسارات تجارب حب سابقة لم تجد بين البشر من يستحق حبها العظيم هذا وثمار جسدها، فمنحته إلى الله..
مجموعة سرديات
أقول أن رواية ( دفوف رابعة العدوية ) هي مجموعة سرديات لمواقف كثيرة ومشاهد أكثر إثارة ومغامرة عاشها أبطالها وهي تصور حجم التفاعلات النفسية التي يمر بها الإنسان وهو يسعى لإثبات قدراته على التوليف والمعايشة مع الواقع الصعب والظروف العصيبة التي قد تعصف بكل آماله وطموحاته خاصة وأنه يعيش حالة من الشوق العارم لكل ما يراه هو الأجمل والابهى في هذه الدنيا..خاصة وهو العاشق لعينين واسعتين وقوام ممشوق لمن يحبها..( رأيت الزعفران يخرج فقاعات تعلو شيئا فشيئا مع تنهداتها، وحركات يدي الباحثة عن نفسي، تحولت الفقاعات إلى زهور صفراء ،راحت تنمو وتعلو على إيقاع أنفاسها المضطرمة بالشبق ،زهور عباد الشمس عريضة تعلو سريعا ،وتمد أوراقها وزهورها فوقنا مثل غابة، راحت يدي تبعدها عني، كي اتنفس، وكان صوتها يزداد ارتفاعا، مصحوبا بفحيح هذه المرة:- لا لا ..كان الصوت يهبط ويصعد، يأتيني متصلا أو منقطعا من أعماق غابة زهور عباد الشمس التي ضاعت في ثنايا يدي وذاب جسدي..) ربما ينبهر القاريء والدارس بهذه الصور الشائكة التي جاءت محملة بروائع السرد الحكائي الذي عرف به عبد الستار البيضاني منذ أن حطت ركاب منجزاته في عالم الرواية والقصة ومتطلبات حضورها بين ما يصدر من مثيلاتها.. ودفوف رابعة العدوية جاءت لتبعث من جديد ذلك اللحن الخالد في التأريخ وهي حالة غريبة من الجمع بين الواقع والمتخيل في عالم الأسطورة والفنتازيا الواسع الظلال والمعالم.