الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
دولة المواطنة.. من الحلم الدستوري إلى الواقع الطائفي

بواسطة azzaman

دولة المواطنة.. من الحلم الدستوري إلى الواقع الطائفي

محمد علي الحيدري

 

حين يُقال “دولة المواطنة”، تُستحضر مباشرة صورة الدولة التي لا تميّز بين أبنائها على أساس الدين أو العِرق أو اللغة أو الطبقة، بل تقوم على عقدٍ مدنيّ جامع، يُساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات، ويجعل الكرامة الإنسانية لا غير، حجر الأساس في العلاقة بين الفرد والدولة. غير أن هذه الصورة، رغم وضوحها وبداهتها، بقيت في كثير من دولنا مشروعًا مؤجّلًا، بل مستبعَدًا أحيانًا، تحت وطأة البُنى التقليدية أو الغرائز السياسية أو لعبة الغالب والمغلوب. ليست المواطنة مجرّد هوية قانونية، ولا بطاقة تعريف، بل هي انتماء واعٍ لمجتمع يُديره القانون لا الهوى، وتَحكمه المؤسسات لا العصبيات. إنها إحساس بالأمان والكرامة، قبل أن تكون نصوصًا تُدوَّن في الدساتير. ولهذا، فإن دولة المواطنة لا تقوم على الورق فقط، بل تحتاج إلى وعي سياسي، وثقافة عامة، وإرادة سلطوية تنأى بنفسها عن الاستثمار في الانقسام.

حقوق جامعة

لكن الذي حصل — في تجارب كثيرة — هو العكس تمامًا. إذ أُفرغت المواطنة من مضمونها، وصارت الدولة، في أحسن الأحوال، حارسةً للتمايزات الطائفية والقبلية، لا راعيةً للحقوق الجامعة. وبدل أن تكون “الدولة وطنًا للمواطنة”، تحوّلت إلى شركة مساهمة تُوزَّع فيها المناصب والثروات على أسس ما قبل سياسية، حيث يُقاس الإنسان بمذهبه.

 ويُمنح النفوذ بحسب هويته الأولية، لا بحسب كفاءته أو انتمائه العام. إن العائق أمام دولة المواطنة ليس غياب المفهوم، بل اختطافه. فقد جُيّر لصالح مشاريع سلطوية تجعل من المواطنة مجرد قشرة للخطاب، بينما الواقع يُدار على قاعدة “نظام الامتيازات”. وبدل أن تُصهَر الفوارق في بوتقة الانتماء العام، يُعاد إنتاجها وتحويلها إلى أدوات حكم. وهكذا، يصبح الانتماء للدولة ضعيفًا، ويحلّ مكانه انتماءٌ فرعيّ هشّ، لا ينتج إلا مزيدًا من الشكوك والتوتر.

ليست المواطنة نقيضًا للدين، ولا عداءً للهوية الثقافية، لكنها ترفض أن يُبنى العقد السياسي على الفرز الديني أو العِرقي أو الطائفي. إنها، في جوهرها، مشروع تحرّر من الانتماءات القسرية نحو اختيار مدنيّ حرّ. ولهذا فهي ليست ترفًا غربيًا، بل حاجة عربية ملحّة، في مجتمعات أنهكتها الولاءات المزدوجة، والانقسامات المصطنعة، والدول التي تُنتج رعايا لا مواطنين.

قد يكون أصعب ما في دولة المواطنة هو التأسيس لها وسط واقع متخم بالحساسيات والهويات المغلقة. فكل إصلاح سياسي لا يمر من بوابة المواطنة، سيظل ناقصًا، أو قابلًا للنكوص في أول لحظة أزمة. ذلك أن المواطنة ليست بندًا فرعيًا في مشروع الدولة، بل هي عمودها الفقري. وإن غابت، سقط الهيكل، حتى وإن بدا متماسكًا في الظاهر. ولعل ما يجعل هذا المشروع أكثر تعقيدًا في دولنا هو تواطؤُ السياسة مع “اجتماع ما قبل الدولة”، حيث تستثمر النُّخب الحاكمة في الخطاب الطائفي أو الجهوي، إما لترسيخ سلطتها أو لإقصاء خصومها. وهكذا، يتم تقويض أي أمل في بناء ولاء وطني موحد، وتُخطف الدولة من أهلها لصالح جماعات تتقاسمها لا تُوحدها. من أجل ذلك، فإن معركة دولة المواطنة ليست معركة قانونية فقط، بل هي معركة على الوعي، والثقافة، والسردية العامة. وهي لا تُنتصر بسنّ القوانين وحدها، بل بإعادة بناء الثقة، وترسيخ المساواة، وتجفيف منابع الامتيازات الخاصة. ولا يمكن فصلها عن العدالة، ولا عن الاقتصاد، ولا عن الإعلام والتعليم، لأنها في نهاية الأمر، مشروع متكامل لا تجزيء فيه.

إن دولة المواطنة ليست شعارًا نلوكه في المحافل ولا بندًا نُضيفه إلى بيانات المؤتمرات، بل هي الردّ الأخلاقي والسياسي على كل مآسينا. هي الرؤية الوحيدة القادرة على رأب الصدوع التي طال أمدها، وتأسيس عقد جديد يُنهي زمن الغلبة، ويؤسس لزمن المشاركة. ومن دونها، ستبقى الدولة هشّة، مشروطة، مملوكة لفئة دون أخرى، وستبقى الشعوب — وإن امتلكت أعلامًا وأناشيد — بلا شعورٍ حقيقي بالانتماء، وبلا ثقة في أن هذا الوطن وطنٌ للجميع، لا مزرعة للأقوى.

 

 


مشاهدات 51
الكاتب محمد علي الحيدري
أضيف 2025/07/14 - 4:21 PM
آخر تحديث 2025/07/15 - 2:19 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 69 الشهر 9071 الكلي 11162683
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/7/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير