الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من حرق البنادق إلى صناديق السياسة

بواسطة azzaman

من حرق البنادق إلى صناديق السياسة

سوزان ئاميدي

 

في خطوة غير مسبوقة في تاريخ النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط، أعلن حزب العمال الكردستاني (PKK) عن إنهاء كفاحه المسلح عبر حرق أسلحته علناً ، لا من خلال تسليمها إلى الدولة التركية، ولا عبر وسيط دولي أو لجنة محايدة. هذا الفعل الصادم والمقصود لا يشكّل مجرد نهاية مادية لاستخدام السلاح، بل يفتح الباب أمام تأويلات سياسية ورمزية عميقة، تتعلق بطبيعة التحول في مسار الحركة، وبالرسائل التي ترغب في توجيهها إلى الداخل والخارج على حد سواء.

اختيار الحرق، وليس التسليم، لا يعكس فرقاً في الأسلوب فحسب، بل في الموقف أيضاً. فالتسليم غالباً ما يرتبط بالانكسار أو القبول بشروط الطرف الآخر، بينما الحرق يمثّل قراراً ذاتياً ينطوي على إرادة واضحة في إدارة اللحظة السياسية، واستعادة السيطرة على الرمزية النضالية. يريد الحزب أن يطوي صفحة العمل المسلح بإرادته لا بإرادة خصومه، وأن يُنهي مرحلة دون أن يُسقط سرديته الخاصة أو يتيح للآخرين كتابة نهايته.

في هذا السياق، تصبح النار فعلاً سياسياً بذاته. إنها ليست فقط أداة للإتلاف، بل وسيلة للتطهير الرمزي من ماضٍ مليء بالعنف، دون التبرؤ منه. حرق السلاح يعبّر عن رغبة في القطيعة مع الكفاح المسلح، لكنه في الوقت نفسه تأكيد على أن هذا القرار هو نتاج مراجعة داخلية لا نتيجة لإملاء خارجي. إننا أمام فعل مزدوج: اعتراف ضمني بأن السلاح لم يعد مجدياً في السياق الحالي، ولكن دون التخلي عن مشروعية النضال أو الرواية التاريخية له.

وسيلة تفادي

ومن زاوية أخرى، يمكن قراءة هذا القرار كوسيلة لتفادي التوظيف السياسي والإعلامي للسلاح. فتسليم الأسلحة كان سيُفسَّر كعلامة ضعف، وربما يُعرض لاحقاً كغنيمة رمزية في الإعلام الرسمي التركي أو يُستخدم في مداولات دعائية لتشويه صورة الحزب أمام جمهوره. باختيار الحرق، يُغلق الحزب هذا الباب تماماً، ويحتفظ لنفسه بخاتمة يراها أكثر كرامة، وربما أكثر تأثيراً لدى قاعدته الكوردية .

رغم ذلك، فإن الفعل الرمزي مهما كان لافتاً لا يكتمل من دون محتوى سياسي بديل. إذ إن التحول من البندقية إلى صناديق السياسة لا يتحقق عبر النار وحدها، بل يتطلب مشروعاً سياسياً واضحاً، ومؤسسات، وتحالفات، وخطاباً جديداً قابلاً للتطبيق. فما بعد السلاح، إن لم يكن مؤطَّراً بمبادرة سياسية جدّية، قد يتحول إلى فراغ أو إلى حالة انتظارية طويلة.

لكن رغم كل تلك التحديات، تظل هذه الخطوة لحظة نادرة تستحق التوقف. فحزب العمال الكردستاني، الذي ارتبط تاريخه طويلاً بالعنف والجبال والعمل المسلح، يبدو وكأنه يفتح نافذة جديدة، ربما نحو السياسة، وربما نحو مرحلة انتقالية يسعى فيها إلى إعادة تموضعه كفاعل سياسي مشروع داخل تركيا وخارجها.

ختاماً، يمكن القول إن البنادق قد احترقت، لكن السؤال الأهم لا يزال مفتوحاً: هل سيُبنى فوق هذا الرماد مسارٌ سياسيٌ حقيقي، أم ستبقى النار مجرّد لحظة عابرة في ذاكرة نزاعٍ أطول مما يُتخيّل؟


مشاهدات 45
الكاتب سوزان ئاميدي
أضيف 2025/07/12 - 1:22 AM
آخر تحديث 2025/07/12 - 5:14 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 145 الشهر 6962 الكلي 11160574
الوقت الآن
السبت 2025/7/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير