ظلّ السؤال
سمير اليوسف
كان النهارُ واقفًا
على عكّازٍ من دخان.
الريحُ تعبرُ المدينةَ
بقدمٍ واحدة،
والأبوابُ لا تُغلق،
إنما تتثاءب.
في زوايا الضوءِ
جلس الصدى يتهجّى الوصايا،
فيما العتمةُ
تحوكُ عمامةً من الغبار
وتدسُّها في جيب الغيم.
تقدّمَ النورُ مرتديًا وجهاً من ذهب،
وتكلم،
لكن فمه كان مليئًا بالحجارة المصقولة،
وعيناه تنظران إلى مكانٍ أعلى
من العيونِ
ومن الجدران
ومن الحكايات.
قالت النوافذ:
من يخطب فينا؟
الريح؟
أم الحذاء الذي لم يلامس الطين قط؟
وفي الزاويةِ،
كان هناك وجهٌ بلا لون،
يرسمُ بسوطٍ من شمس
بابًا
يُفتحُ من الجهة الأخرى للألم.
رفع إصبعه،
لكن لا أحد نظر.
رسم دائرةً
ثم سقط داخلها.
الذي صرخ
لم يكن الصوت،
بل المدى
حين انشقَّ على نفسه،
وبكى بلا دموع.
***
ظلّ السؤال
لم يُولد،
لكنّه كان يُقنع الممرات
أن تُبلّل الإسفلت
بندوبٍ تشبه المطر.
كان يتسلّل
كقطرةٍ فقدت وجهتها
في جيبِ مسافرٍ
تخلّى عن اسمه
ليصير صدىً للمجهول.
يمضي بقدمٍ واحدة
وصوتٍ متكسّرٍ
يُراوغ فمه،
يتطلّعُ نحو الجهات الأربع
كأنّه يشكّ في هندسة العالم،
ويقبض الريح
بكفٍّ لا تتذكّر شكلها،
ثم ينثرها
على صفحة الغيم،
كي تبكي السماء
من ألمٍ
لم يصفْهُ أحد،
ولم يسألهُ أحدٌ عن السبب.
***
وحين يمرُّ تحت سقفٍ
نسِيَ استقامته،
يخلّف وراءه ظلالًا مترددة
وخطىً تجهل اسمها،
تهوي على الحجارة
كصلاةٍ بلا قبلة،
أو كنجمةٍ
أضناها انتظارُ قارئٍ لم يأتِ.
***
وفي الزاويةِ القصيّة من الزمن،
تجلس الغيمات
على مقاعدَ خُذلتْ،
وتبكي —
لا من حزنٍ عرفته،
بل من وجعٍ
بلا هوية،
بلا جغرافيا،
بلا كفنٍ
يصلح لوداعٍ لائق.
***
الماء كان يبكي في مكانٍ ما،
لأنه عجز عن غسل اليدين.
والظلُّ كان يطارد نفسه
في المرآة.
لكن المرآة
لم تكن هناك.
***
الخشبُ الذي نَصَبَ عظامَهُ
في منتصف الحقل،
تذكّر أن جذوره
لم تتعلّم الإنصات.
وأنّ من يعلو
ربما
ينسى ما يعنيه أن يكون تحت السقف.
***
شجرةٌ صغيرةٌ
نامت في فمٍ من نار،
وصحَتْ
تسألُ الحطبَ
عن معنى الولادة.
***
وفي اللحظة التي كُسِر فيها الجرس،
وانحنت الظلالُ
تفتّش عن اسمها،
كان هناك أحدٌ
يكنسُ
صوتًا
لم يُنطَق بعد.
***
وهناك،
في زاويةٍ خفيّةٍ من القصيدة،
جلس طفلٌ
يقرأ على تراب الوقت
سؤالًا:
هل كان الحطب واعظًا؟
أم أن النارَ كانت المستمعة؟
***
أما هو — ظلّ السؤال —
فكان يتقدّم
كمن يخترق مرآةً
أُفرغتْ من المعنى،
يطأ الفراغ
كأنّه خبيرٌ بصمتِ الممرات،
ويعرف أن الطريق
لا يُعيد صدى القدمين،
وأن كلّ بابٍ
إن فُتح،
لا يُطلُّ
إلّا على حجرٍ
يسأل الوردة:
لماذا لم تذبلْ بعد؟
***