الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
سراب نهاية إسماعيل بادي.. شخصية محورية فعالة بخيال البطلة

بواسطة azzaman

سراب نهاية إسماعيل بادي.. شخصية محورية فعالة بخيال البطلة

هيثم نافل والي

استلهمتني رواية الكاتب العالمي ديفد هلبرت لورانس التي تحمل عنوان" أبناء وعشاق " بعد أن عرفت بأنها درجت وصنفت بقائمة أفضل مائة عمل أدبي في العالم! أنهيتها في غضون ثلاث أيام فقط رغم ضخامتها ، لكنها شدتني إليها، جعلتني لا أرغب بالابتعاد عنها، حبستني عنوة، ثبتتني من أقدامي على الأرض لأبقى أتابع أحداثها البسيطة، المتواضعة، الجميلة المنسابة بتدفق رائع كمياه الشلال، وأقل ما يقال عن تلك المياه بأنها باردة وصافيه تسلب النظر بعد الروح! السبب في ذلك بالإضافة إلى ما قلته كانت تعالج موضوعاً غاية في التعقيد العائلي، علاقة الأم بأبنائها، وعلاقة الأبناء بالأم. من هنا يفهم المتلقي الآن لماذا قلت ما قلته، ولماذا تم تنصيفها بالقائمة العالمية ضمن أفضل مائة عمل أدبي عرفته البشرية!

لكن من حق الجمهور الآن أن يتساءل، ما دخل هذه الرواية بعنوان الدراسة الانطباعية التي شرعت الكتابة عنها وما تخوض حولها رواية" سراب " للكاتبة العراقية" نهاية " ؟! هذا ما أردت عرضه وتفصيله طالباً انتباهكم وتركيزكم، أجلكم الله.. 

لا تتعجلوا حكمكم؛ اقرءوا الرواية أولاً ثم سأجد انطباعاتكم التي ستخرجون بها تشبه انطباعاتي التي سأسجلها عليكم! الغريب في الأمر، هو الأمر ذاته، أقصد، لا يصدق من الوهلة الأولى لما سأعلن عنه وأدونه على الملأ!

لا أعرف كيف صاغت الكاتبة أحداث روايتها بهذا الشكل الذي يتكون من الخيال الواقعي وكأنه جزء ملموس، يحسه ويشعر به جميعنا دون استطاعتنا ترجمته على الورق، لكنها فعلت كل ذلك بحرفية عالية، ومهنية وصلت حد أن أقول بأن روايتها يحق تصنيفها رقم 101 من الترتيب العالمي حسب العرف الأدبي دون أن أشعر بأنني أخجل، أو أتراجع عن حكمي أو انطباعي ولا حتى فهمي لما قرأت! مطلقاً، لن أتراجع عن رأيي. فهذا ما خرجت به بعد أن قرأت روايتها متوسطة الحجم في جلستين، لكنها جعلتني لا أنقطع عنها إلا للضرورة القصوى بحكم الحياة!

الكاتبة نهاية لم تطلع على رواية لورانس، ولم تعرف بأن هناك رواية تتحدث تقريباً في ذات الموضوع الذي يخص علاقة الأم والأبناء في الحياة. ومع ذلك، كنت أشعر بأنني لم أنته بعد من قراءة رواية أبناء وعشاق ومازلت مستمراً في قراءتها على الرغم من إني وقتها كنت أقرأ سراب وليس للروانس! عجباً، ما هذا الشبه في السرد والمتانة والتشبيه والحبكة والدراما والصور والمعالجات وتطبيقها على أرض الرواية مفاصل دقيقة تخص حياة العائلة وبهذه الروعة الخلابة التي تأسر الألباب؟! سبحان الله..   رومانسية على مشاعر فياضة تجعل المرء يبكي دماً، وفي لحظات تجعلك تشم رائحة المكان الذي تصفه في روايتها، ناهيك عن اللغة المتجلية التي برعت فيها الكاتبة عندما ترسم الطبيعة وجماليتها بالكلمات السهلة التي تدخل القلب دون حاجتها لطرقه، وهذا في عرفي الأدبي المتواضع إبداع يستحق التكريم.

خيال بطلة

سراب شخصية خيالية غير موجودة في الواقع سوى في خيال بطلة الرواية سما. لكن صورها وأحاديثها ومساهماتها وتحركاتها داخل أطر الرواية كانت فعاله، لكنها من خيال البطلة الواهم الذي يصور لنا وكأن سراب صديقة البطلة موجودة، كائنة بحق، لكنها في الواقع مجرد سراب لا وجود له كالضباب! كيف أقول لكم:

لننظر كيف كانت بطلة الرواية تحاكي صديقتها الوهمية الموجودة فقط في خيالها كظل لا غير، بقولها:

" إنك محقة؛ أخذت مني الكآبة مآخذها ورمتني في حضن اليأس بلا عودة. حمداً لله كان هناك بصيص أمل في القرطاس والقلم. مشكلتي لا أحب البوح بما يطبق على أنفاسي، ولا حتى لنفسي، مما يزيد عبئها هماً.. أصبحت أكره شكوى روحي المعذبة بحملها، كم أتوق لراحة الأموات!"..

وفي مقطع آخر، تشير به إلى أبنها وهي تتحدث إلى ظلها التي تجعلنا نعتقد ونصدق بأنها صديقتها بالفعل وما هي هكذا، بقولها:

" طعنني بخنجره الذي غرزه في قلبي برده ذاك؛ تركني أنزف آلام جراحي، اغتال أمل حلمي فيه، بأنه منقذي من عالم البؤس الذي أحياه. يقيني بقلبه العطوف الرحيم يرق على الغريب قبل القريب. ومن هنا بدأت معاناة عذاب صراع جديد كأنه كتب عليّ مدى الدهر! فاته أننا عائلة لا يمكنه التنصل من هذه العلاقة مهما حاول التملص منها دون لحظة تفكير بعمق منه. قال لي بما معناه، أن دورك معي إلى هنا قد انتهى "..

ثم لننظر كيف كانت تصف لقاءاتها بالشخص الذي توهم نفسها بأنه حقيقي يعيش معه يدعى" سراب  " في قولها هذا:

" بعد استرخاء أغرقها في وحل الخيال فصلها عن ضوضاء ركاب القطار وكأنها لوحدها، راح فكرها يشغلها بأسئلة حاولت تأجيلها، لمَ كل هذا الشقاء، وهل هو من صنعي أنا؟ هل وحدتي باختياري؟ كيف أخلق السعادة من همي الذي يكسي روحي العارية؟ وعت فزعة بيد تربت على كتفها من الخلف، حيث كان يفصلها حاجز زجاجي على شكل مربع نفذت تلك اليد من خلال شق صغير كان يحيط بذلك الحاجز. تداركت فزعها وارتباكها على عجل كعادتها كيلا تترك ضعفها يغلبها؛ بحزم رفعت يدها لترد اليد التي باغتتها إلى صاحبها، سرعان ما تحول ذلك الفزع إلى بهجة حين رفعت نظرها وتأكدت أنها كانت لمن طال انتظاره وتاقت روحها لمقابلتها، صديقتها سراب "..

بينما تتجلى الكاتبة في اللعب مع القارئ وتجعله يشعر بنشوة ما يقرأ من خلال هذا المقطع المعبر الذي يدل على مهنيتها في الكتابة ومن يفهم مبدأ الكتابة وكيف يصوغها المرء يعرف مدى الجمالية التي جعلت من هذه الجملة البسيطة لوحة غاية في الروعة بحكم التحكم في النفس الذي لا يثور إلا بقرار من الكاتبة نفسها، هذا هو الفن الكتابي الذي نتمنى وجوده في عالم الأدب:

" حيرة سراب جعلتها تفكر قبل الكلام، ثم حزمت أمرها في تغير مجرى الحديث، فلم يدلها فكرها إلا بالسؤال ".

يا الله، كيف تلوى النص هنا؟ بعد كل تلك الحيرة والقلق لم يخطر ببال سراب إلا السؤال؟ هنا تكمن الحكمة الكتابية في رأيي المتواضع ككاتب وكقارئ..

ثم تتجرأ بالاعتراف مع نفسها بطلة الرواية التي تدعى" سما " بأن تقف على حقيقة ما كانت تعيشه، الحياة التي لم تسعفها أو تكافئها، بل التي جنت عليها، بقولها:

باهظة الثمن

" إفراطها بالحنان لتكريمهم إن صنع أحدهم ما يستحق الثناء عليه؛ تهبه ما يشتهي وما يحلم به من هدايا وألبسه وإن كانت باهظة الثمن. في حين كثير ما كانت ترقع ملابسها كيلا تقتني الجديد منها حتى تستطيع توفير ما يسعد أولادها! شغفها هذا أسدل غشاوة على عينيها، أخفت رؤية الأمور على ما هي عليه. أخذت تهلل وتبجل إنجازها المتفرد هذا في الدنيا، رسمته كلوحة فنية تبقى خالدة. لها ألوانها وخطوطها تلك مدى الدهر. توهمت بامتلاكها الكون بكف ما زال أولادها في كفها الآخر. خيل إليها أن بناءها ثابت، لا يهزه زلزال أو يهده إعصار، تناست بأن أبناءها بشر، من لحمٍ ودم"..

من هنا نعلم حجم الخسارة وكمية الألم التي كانت تشعر به وما لحقها من جراء أقرب الناس إليها، أولادها! وصف جميل، سرد رائع، واقعية منطقية، تجلي في العواطف، والأكثر من ذلك الطرح العائلي الذي يغلف محتوى النص الذي تسعى الكاتبة من ورائه إظهاره للعالم. هذا ما جعلني أقول ما ذكرته في البداية من أن رواية المبدعة العراقية تستحق أن تكون رقم 101 في التصنيف العالمي دون أن يرجف لي طرف!.وإلا كيف تفسر حركتها هذه وتشبيهها، وكيف تم الربط بين حركة وأخرى بعيدة عنها، بقولها:

" نفضت غطاء السرير عدة مرات بقوة وكأنها تحاول التخلص من فكرة ما علقت بذهنها ".. 

أنظر إلى الكيفية التي كانت تتقمص بها حالة البطلة.. فبحركة الغطاء المتكرر شبهتها بفكرة كانت عالقة في ذهنها تهزها بنفس الطريقة المغالى بها نتيجة انفعالاتها وما يجري لها..

يسعدني أن أختم انطباعاتي هذه بستة أبيات من الشعر دقتها المبدعة نهاية إسماعيل بادي في روايتها لسند حجتها بأنها مقتدرة في عملها، متمكنة منه وهي تصف من لا يسمح النصح، بقولها:

" ما فاد ندماً بعد أوان

ولا داوى سماً في الأبدان

من لا ينصت لنصح الأقران

عذابه يكون بنار الأحزان

واهن في الحياة مهزوم جبان 

غفل عما هو جميل فتان

يصبح مستطرق فيها ماجن

لا يردعه في التغير حسبان

خيالاته ظنها يقين

 لله دره، فهو عليل مسكين

ما علا صرح ليس متين

ولا اقتدى برأي غير رزين


مشاهدات 1092
أضيف 2022/01/07 - 3:45 PM
آخر تحديث 2024/11/21 - 5:16 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 119 الشهر 10499 الكلي 10053643
الوقت الآن
الإثنين 2024/11/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير