الموصل.. مؤشرات غير مريحة
عبدالمنعم الاعسم
ثمة قلق مشروع بين النخب الموصلية المختلفة على خلفية المخاشنات الفئوية المتطورة الى تهديدات واستعراض القوة، واستشراء الفساد، وتعثر عمليات ترشيد الادارة، والحال لا يصح النظر الى ما يحدث على انه إفراز لصراعات جانبية عابرة، او تشابك مصالح، وهوس تزعم، وتكوين بطانات، فهذا جزء من المشكلة التي تثيرها الازمة في هذه المدينة، اما المكونات الاخرى من المشكلة فانها تتوزع على مساحة واسعة من التاريخ والخصوصيات القومية والثقافية والاجتماعية فضلا عن التركيبة القبلية الحساسة للمدينة، في حين تخندقت الادارات المتعاقبة في انانيات مدمرة عبرت عن نفسها في محاصصة بغيضة عبورا من فوق وحدة النسيج المحلي التاريخي.
فهي المدينة الوحيدة من بين مدن العراق كانت، في خلال قيام الدولة العراقية المعاصرة في اواخر العقد الاول من القرن الماضي، موضع امتحان وتحدّ في حقيقة انتمائها الجغرافي الى النسيج الوطني العراقي، ومنذ ذلك الوقت شقت المدينة سبيلا مميزا في بناء حاضرها الثقافي والعمراني، يستمد قسماته من تجليات التنوع، وأبعاده التاريخية، حيث كانت مهداً للأشوريين ومحجا للبابليين ومركزا للآراميين سكنها الجرامقة القدماء واقترن اسم نينوى بامبراطورية الآشوريين في حين سقطت عام 612 قبل الميلاد على ايدي الكلدانيين والميديين فاتجهت الهجرات صوب تل قليعات بالموصل على الطرف الايمن من دجلة، ثم سيطر الفرس الأخمينيون على المنطقة بعد القضاء على الأمبراطورية الكلدانية عام ( 537 قبل الميلاد) وشجع كورش العرب والفرس علي السكني في هذه المنطقة لما تمثله من أهمية استراتيجية أمام الأغريق.
لقد تموضعت الموصل المعاصرة مدينة ذات شأن بعامل هويتها العربية المعززة بالتنوع القومي والديني لسكانها، من عرب وكرد وتركمان وسريان وكلدان وآثوريين وارمن ، سنة وشيعة وايزيدية وشبك ويهود، ويشهد علي هذا الأمر وجود المئات من المآذن الاسلامية وعشرات من الأديرة والكنائس والمزارات لاتباع الديانات والأقليات، فيما اصطدمت محاولات تكييف احوال المدينة، واستئصال شرائح واقليات، ومساعي تسجيلها في مشروع سياسي لفريق من الفرقاء المتصارعين بجدار من المقاومة، وانتهت تلك المحاولات، في الغالب، الى حروب محلية كارثية، لكن سرعان ما يعود ميزان القوى الى حالته الاولى، والى حقيقته الصلدة: لايمكن للمدينة ان تدار إلا من خلال تعايش جميع المكونات ووسطية الادارة، وشاءت هذه الحقيقة ان تعيد نفسها هذه الايام وسط محاولات لتحريك معادلات التوازن عن وسطيتها واخذها رهينة في مشروع سياسي واحدي، فيما الواحدية جاهلية، ولغم في ذات الوقت.