قبل سنة رحل الباحث الأقتصادي والسياسي والقاص والروائي..جاسم المطير. الكتابة عنه تحتاج مقالات لكنني هنا اقتطف انموذجا للكتّاب ولمحبيه من مقالة طويلة تكشف عمق المتابعة وعلمية التحليل وجمالية المقاربة بين ظاهرتين لصداقة حميمة لا شيء مشترك بينهما سوى (المعرفة)!..واسرار تكشف عن حفر نفق في سجن الحلة وهروب شيوعيين منهم مظفر وجاسم.
كتب يقول: لا اتحدث في مقال اليوم عن اشكاليةٍ أدبيةٍ تواجه الشاعر مظفر النواب. لا توجد على طاولتي أية اشكالية تتعلق بطبيعةِ نشاطِ الدكتور قاسم حسين في مجال العلوم و السيكولوجيا. لا ارى شيئاً مشتركاً بينهما سوى (المعرفة ) . ليست معرفة ناتجة من عقل إلكتروني مثل ( كوكل) ، لكنها معرفةٌ ناتجةٌ عن الارتباط بمنظومة الحرية ..تتكون من ظاهرتين عقليتين مصقولتين في أعماقها:
١- ظاهرة الشعر تجثم على صدرِ مظفرِ النواب ، يريد الانطلاقة نحو الناس.
٢- ظاهرة علوم السيكولوجيا تتجلى بقدرة و اختيار الدكتور قاسم حسين صالح.
ليس بينهما أي محرّكٍ بالقسرِ او للقسرِ. لا الشعر يمكن أن تسجنه الأيديولوجيا و لا علوم السيكولوجيا تتحرك في حدودٍ منظمةٍ من المتخيل الى الواقعي. لا يحتاجان الى أي بروفيسور من جامعة اوكسفورد او من جامعة موسكو لأنهما متّحدانِ مع بعض للعيش المشترك مع كل الشعب في عالم ما بعد الغد .
العلاقة بين عالم السيكولوجيا الحديثة ، الدكتور قاسم ، مع الشاعر مظفر ، هي علاقةٌ من نوعٍ خاصٍ جداً، لم أتمكن من تحليل اسبابها. لا يختصان ،مثلاً، باختصاصٍ علميٍ واحدٍ ولا باختصاصٍ أدبيٍ واحدٍ. اي انهما ليسا من اختصاص علمي واحد،مثل اختصاص الطاقة الذرية او اختصاص الهندسة الكهربائية. كما انهما ليسا من اختصاص واحد، مشترك او منفرد، في الأدب العربي او الأدب الإسباني او الأدب المقارن و لا يحمل الدكتور قاسم صفة نظم الشعر ، لا الشعبي و لا الحديث الفصيح. لا علاقة له بعلومِ اللغاتِ و الألسنة .
سجايا التغريد
لا يحمل مظفر النواب أي دراسة عن تكنيك الطاقة النفطية و لا أية دراسة صناعية او زراعية و ليس له أية سجيةٍ من سجايا التغريد عن العلوم السيكولوجية . لكنهما صديقان كونفدراليان لأن كلاً منهما انشغل، حراً، لتدوير نفسهِ تدويراً وطنياً، منذ عقودٍ كثيرةٍ مَضَتْ.
الشراكة الوحيدة بينهما تتركز على قلقٍ عموميٍ يواجه، كلاً، منهما ، بشأن المجتمع العراقي و ما دار و يدور به من تناقضٍ و تنافرٍ و صراعٍ و مآسٍ مضادةٍ لكل القيم الاجتماعية. ربما (الكلمة) مَنَحتْ (لحرية) الى الشأن الموحد ، الفني، الخلاّق، في أبياتِ الشعرِ و قصائده عند الشاعر (مظفر النواب)، المتطلع الى ترقّي النضال الأعلى. ربما الشجاعة الداخلية حرّرتْ الدكتور قاسم من عبادة الأصنام المتحكمين بالتاريخ العراقي فانقذ حريته السيكولوجية بـ(الكلمة العلمية).
الشاعر مظفر و العالِم قاسم ابتعدا عن الانقسام و تقرّبا من غايةٍ واحدةٍ، إنسانيةٍ، ممكنة و منتهجة. تمارس حق التعبير بــ(الكلمة) لأن (الكلمة) هي مغامرة الإنسان المعاصر، هي دوره المثالي. لا حق في هذا الدور من دون الكلمة و من دون الحرية .
الكلمة لا تحرر العالم ، كله ، فحسب ، بل توحّد المتباعدين المتغايرين بالأعمال و المهن و بالموقف ،عمّا يجري بين الناس في الزمان الواحد و المكان الواحد.
تُرى..هل بإمكان (الكلمة) ان توحّد بين صخب الشعر و كفاحه، مع غياهب الصور السيكولوجية، غير المرئية و غير المطبوعة. تُرى هل من الممكن توحيد حكمة الشاعر وليم شكسبير مع سرّاء وضرّاء الطبيب النمساوي السيكولوجي سيجموند فرويد ؟
أقول كلمة نعم ،بسرعة، لأن (الحكيم) يلتمس المعرفة و يلامسها . كذلك (الطبيب) حليف المعرفة ، الساكن وسط كل نزاعٍ و في وسط جميع المتاعب الإنسانية.
أقوال الدكتور قاسم حسين كانت ضوءاً لامعاً ، ضمن أفقٍ واسعٍ أنجزه بعنوان ( الضد وضده النوعي في ابداع مظفر النواب) . نشرُ المقال في موقع الحوار المتمدن و بضع صحف عراقية في بغداد. تضمّن تحليلاً سيكولوجياً عن إنسانية الشاعر مظفر النواب في الاحكام الشعرية – النضالية .
مما يلفت نظرنا بهذا المقال ، أن عالِم السيكولوجيا (الدكتور قاسم) قد توجّه الى علاقة المساواة الإبداعية بين العقلية الشعرية و العقلية العلمية الصرفة . في الحالين تكون الجدارة الكبرى للذهنية الصرفة .
كانت سطوره قد تناولت الكثير مما احتوته شرفة الشعر المظفري. ابهرنا النص المذكور ، المنشور في الصحف العراقية و في الفيسبوك. كان نصاً من نصوص علم الجمال ، علم الجمال الاجتماعي او علم الاجتماع الجمالي،كان نصاً فيه من الأهمية بما فيه الكفاية عن بعضِ وجودياتِ أفعالِ مظفر النواب بالمربعات التالية :
* مربع الشعر.
* مربع المرض .
* مربع التاريخ النضالي للشعر و الشاعر، منذ قصيدة الريل و حمد.
* مربع الهروب من سجن الحلة.
* مربع الحياة الإنسانية في مهجر عربي.
كنتُ سعيداً جداً ،من الناحية الشخصية، حين اكتشفتُ نفسي موجوداً في احاديثهما. كان مظفر النواب، مبادراً حراً، في حسمِ قضيةٍ من قضايا الهروب من سجن الحلة ، حين أثار ( بعض) ممّن لا علاقة لهم بقضية الهروب ، اشكاليةً معينةً ، حول منظور دوري الشخصي في التحضير لهروب السجناء الشيوعيين من سجن الحلة المركزي ، ضمن سلسلة الأدوار بين السجناء، فقد أعلن ، بوضوح تام أن جاسم المطير كان واحداً من اربعة رفاق سجناء خططوا لعملية الهروب.
بذلك وأمام العقل العلمي ، التدويني ، الدكتور قاسم ، حَسَمَ مظفر النواب ، بوقفةٍ رهيفةٍ من عدالةِ الضمير، قضيةً من قضايا الصراع السري بين (الأخلاقي) و (التاريخي) في صناعة عملية الهروب من سجن الحلة عام 1967 و عمّا يملكه السجين (جاسم المطير) من دورٍ متواضعٍ بإنجاحِ العملية المشارك فيها بأدق مراحلها . مثل هذا التصريح كان قد قاله مظفر النواب امام الطبيب اللبيب ، عزيز الشيباني، حين وصف كتابي المعنون: (الهروب من نفق مضيء) ، الصادر عن (دار الرواد) في بغداد بانه افضل سوسنة مرسومة بأدق التفاصيل عن عملية الهروب و تأكيداً لما قاله ، لاحقاً، ضمير المحامي نصيف الحجاج مسؤول التنظيم الحزبي الشيوعي بسجن الحلة، بمقالةٍ خاصةٍ، منشورةً في موقع الحوار المتمدن وهو المشرف على عملية الهروب ، كلها..
أفضى عقل الدكتور قاسم حسين في ثلاثة او اربعة موضوعاتٍ نشرها ، بقلمه، عن الفن الشعري ، الانساني ، بلغة ادبية – علمية واحدة ، تمكّن فيها من عرض الدور الطليعي للشاعر مظفر النواب في ميدان الأدب و الفن المعاصرين. نالتْ قصائد مظفر النواب و اشعاره الشعبية و الفصحى نجاحاً جماهيرياً كبيراً من وجهة الرؤية الشاملة للدكتور قاسم حسين بمقالاته الأربع.
فن تشكيلي
لقد ابلغ مظفر النواب رسالته الى جمهور القرّاء من صنوف العاطفيين و العقلانيين انها رسالة حب ، مثلما كان قد أبلغ الفنان بيكاسو رسالته في الفن التشكيلي ، القائلة : أن الحب هو الوجود .
أنه كشفٌ عقليٌ – من رئيس منظمة اسمها ( تجمع عقول) يرأسه الدكتور قاسم حسين لحصر التعارض بين الشعر و النضال في ملاحم مظفر النواب، الشعرية .
مثلما أنجز هوميروس كتابة ملحمة الأوديسا ، استطاع الشاعر مظفر النواب أن يحقق في قصيدته الشعرية مقدرة ابداعية فذة رفدتْ حركة الشعر الشعبي بـ( التجديد ) و (التكامل) ضمن الثقافة الاجتماعية في (الريل و حمد ) و الثقافة السياسية في قصيدة (جرح صويحب ) و في الثقافة العمومية و الخصوصية ، الحيوية ، الفنية ، بجميع اشعاره الأخرى ، كما رعاها و كشفها الأخ قاسم في تحليلاته الاجتماعية ذات الطبيعة ، الاختصاصية ، السيكولوجية بالرغم من ان (الدكتور قاسم حسين صالح) ، معروفٌ برفضهِ الروحية البطريركية .
أُحب الشعب السومري ، ليس لأن مظفر النواب احب شعر جلجامش ولا لأن الدكتور قاسم اثارته علومهم في الفلك و الهندسة و البناء والزراعة ، إنما لسببٍ واحدٍ هو انهم لا يخشون شح المطر.
انا واثق ان مياه نهري دجلة و الفرات تكفينا، تكفي لسقي جميع أراضينا إن شح المطر . لذلك لا اخشى ان يتكيّف الشعراء العراقيون مع القصيدة السومرية ذات النقوش الكلامية المنتصرة بمظفر النواب وبعينيه اليقظتين الى الابد.