لعل الأمر صائِر إلى بصائر
علي الجنابي
(ألتمسُ العذرَ من أهلِ الصَّنعةِ في الضَّادِ عن خَوضي في ذا مقال، لكيلا أظهرَ أمامَ الحشدِ بهيئةِ المُتفذلكِ المُتَبَرِّمِ المُحتال، وإنَّما أنا “فيتر” آليات ولم أكُ قطُّ في سُوقِ البيانِ العَربيِّ بتَاجرٍ ولا بقَّالٍ ولا كيَّال).
وإذ تَتَغَنَّى نَبَرَاتُ المَنَابر، وتَتَهَنَّى عَبَرَاتُ المَحابِر، في ديَارِ العَرب الحَواضر، بما قالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي نَظْمِهِ:
وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا
وَكِدْت بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِك يَا عِبَادِي
وَأَنْ صَيَّرْت أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا
وإذ علَّمَتنا المدراسُ ولم تزلْ، أنَّ “صارَ” هوَ فعلٌ ناسخٌ يفيدُ تَحوُّلَ الأشياء ، كقولناَ “صارَ العَجينُ خبزاً” ولا حاجةَ لنا بهِ بعدَما إلتقَمنا الغَداء، واستقرَّ يابسُ الخبزِ البائتِ في الأمعاء. ثمَّ استِناداً الى ذا عِلمٍ ذي فَهمٍ بأطرافٍ عرجاء، فقد صَيَّرَ ربُّنا ﷻ أَحْمَدَ ﷺ لَنا نَبِيَّا في العَلياء، أي؛ تَحوَّلَ من بشرٍ الى بَشيرٍ ذي هناءٍ وبهاء. بيدَ أنِّي أشعرُ أنَّهُ فَهمٌ عَقيمٌ غيرُ قَويم باستِجلاء، وأنَّهُ معَ خَلجاتِ الذَّاتِ أبداً لا يستَقيم بل منهُ النَّفسُ تستاء. لذلكَ رأيتُنيَ أُهرَعُ الى “لسانِ العَربِ” الأولينَ النُّبلاء، لكيلا أشكِّكَ في حُسنِ بيانِ الْقَاضِي عِيَاض الخبيرِ في البلاغةِ بذكاء، وإذ كنتُ مُوَسوساً مُتسَائلا بخَفاء؛ “لمَ قلتَ أيُّها القَاضي “صَيَّرتَ” وما قلتَ “أرسَلتَ، بَعَثتَ”) في الإنشاء. ثمَّ عَرفتُ مِن سجلّاتهمُ السَّمراء، لكنَّ بطونَ صفحاتِها تظلُّ أبداً نفيسةً أنيسةً ناصِعةً بيضاء، أنَّ الفعلَ”صَارَ”لا يعني التَّحوَّلَ من شيءٍ الى شيءٍ بدعاءٍ أو بلا اتكاءٍ على دعاء، مثلَما هوَ ذائعٌ في المَدارس بنماء، وشائعٌ كالمحابِس في عَوامِ النَّاسِ وبينَ الفَوارس بجلاء . وتَفضَّلوا معيَ لنَزورَ مضاربَ ديارِ الفعلِ”صَارَ” في البيداء؛ [صارَ الأَمرُ إِلى كذا يَصِيرُ صَيْراً ومَصِيراً وصَيْرُورَةً. والمَصِير: الموضع الذي تَصِير إِليه المياه. وصارَه النَّاس: حضروهُ، والصِّيرُ: الماءُ يحضرهُ الناس؛ ومنه قول الأَعشى: بِمَا قَدْ تَرَبَّع رَوْضَ القَطا * ورَوْضَ التَّنَاضُبِ حتى تَصِيرَا، أَي حتى تحضر المياه. والصَّائِرَةُ: الحاضرة. ويقال: جَمَعَتْهم صائرَةُ القيظِ. وصَيُّور الأَمر: ما صارَ إِليه. وصِيَرُ الأَمر: مُنْتهاه ومَصِيره. ووقع في أُمِّ صَيُّور أَي في أَمر ملتبسٍ ليس له مَنْفَذ]. وأظنُّنا فيما هَهُنا قد فَهِمنا العِبارَةَ باستِجلاءٍ على استِرخاء؛ “ وَأَنْ أحضَرت أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا”، وليسَ” وَأَنْ حَوَّلتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا” كما تتحوَّلُ الأشياء، وإذاً فقد صارَ القسيمُ الوسيمُﷺ ذو السناء، هوَ مَرجِعُنا الذي نَصِير إِليه في الإرتقاء.
وهوَ الماءُ الذي يجتَمعُ حولَهُ الظمآنُ برجاء، وصَارَ أمرنا كلُّهُ اليهِ في ضُحىً وحينَ المساء، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ﴾. علماً أنَّ الفعلَ “صارَ” لم يردْ في القرآنِ الكريم بصيغةْ الماضي الذي يُفيدُ التحولَ في الأشياء، بل وردَ بصيغتي “تَصيرُ، مَصِيرُ”؛ { أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}، { لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.{ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا}.
و[قال الأَزهري: وأَما صارَ فإِنها على ضربين: بلوغ في الحال وبلوغ في المكان، كقولك صارَ زيدٌ إِلى عَمرو، وصار زيدٌ رجلاً ، فإِذا كانت في الحال فهي مثل كانَ في بابه]. ونحنُ بفضلِ منَ ربِّنا العَزيزِ الرَّحيم ﷻ قد صِرنا الى مُحمدَ ﷺ بعدَ ما كنَّا الى هُبَلَ صَائرين صَاغرينَ. وشَتَّانَ ما بينَ معلومِ الفعلِ”صَيَّرَ” وألقِهِ في بيانِ الأولينَ الأصلاء، ومفهومِ الفعلِ “صَيَّرَ، تَحَوَّلَ”وزلقِهِ في تبيان الآخرينَ الجُهلاء.
رحمَ اللهُ ﷻ مُعلِّمي “أ.فؤاد” المُربِّيَ الصَّفيَّ بوفاء، إذ كانَ لايفتَأ في صيفٍ وشتاء، يهتفُ بتَبَختُرٍ وأنَفَةٍ وبكبرِياء؛ “صارَ الجوُّ صَحواً، صارَ العَجينُ خبزاَ، صَارَ العراقُ شعلةً”. وها هوَ اليومَ قد ؛”صارَ العراقُ مَصِيراً لكلِّ مَن هَبَّ ودَبَّ مِن أنحائِها والأرجاء، الأشقياءِ منهم والبؤساء على سواء”.
وأنَّما الأُمُورُ صَائِرَةٌ إِلَى مَصَائِرِهَا. وهكذا قالتِ العَربُ أيُّها الفضلاء.
واللهُ أعلم.
(تنويه: تعبيرُ “وصَارَ أمرُنا كلُّهُ اليهِ” مختلفُ عن” وصَارَ اليهِ أمرُنا كلُّهُ”، فتأمَّل يا رعاكَ الله لكيلا تَستعجلَ فتَمتَعضَ وتَستاء).