قصة قصيرة
المرآة المسحورة
فراس عبد الحسين
تضطرم في عقله الاف القصص والحكايات، تحرمه النوم كل ليلة، لكنه لم ينجح في إيصال كلماته الى عقول وقلوب القراء، اصابه ذلك بالإحباط والوحدة والانعزال عن المجتمع، حتى قرر أن يخلق عالماً جديداً لنفسه يعيش فيه بين مخلوقات سحرية وشخصيات غامضة شكلها بكلماته، عالم غريب اسماه «زاريا».
انتهى أحمد الربيعي من روايته بعد أشهر من العمل الشاق والمضني، فقرر أرسلها إلى دار نشر مشهورة، عسى أن تلقى النجاح الذي كان يصبو اليه. لكنه لم يتلق ردا منهم بإمكانية طبعها ونشرها. شعر بغضب وحزن شديدين، وقرر أن يقرأ روايته مرة أخيرة قبل أن يتخلى عن حلمه. فتح الكتاب وبدأ في قراءة الصفحة الأولى: «في عالم زاريا، كان هناك ملكا عادلا وحكيما يسمى سليمان، يحكم شعبه بسلام وعدل، ولديه قوى سحرية عظيمة، تتمثل بمرآة سحرية تستطيع أن تظهر له أي شيء يريده، يستخدمها لحماية مملكته من الأعداء والشرور»
أثناء قراءته، شعر بشعور غريب، كأن الكتاب يجذبه إلى داخله. أحس بدوار وغثيان، ثم فقد وعيه.
عندما استفاق، وجد نفسه في غرفة فخمة مزخرفة بالذهب والجواهر، وفي وسط الغرفة مرآة كبيرة تلمع بضوء غامض. يقف بجانبها رجل ملكي الهيئة، تغطي معظم وجهه لحية بيضاء طويلة، وعيون نظراتها حادة. يرتدي عباءة حريرية وتاج من الذهب، أنه الملك سليمان. استقبله قائلاً: أهلا بك في زاريا، أنت ضيف شرف لدي، أنا ممتن لك، قلمك من خلق هذا العالم الجميل، ونصبني ملكاً عليه!
شعر بالذهول ولم يستطع تصديق ما يراه ويسمعه. هل هذا حلم؟ أم كابوسا؟ أم حقيقة؟
ثم سأله أحمد بارتباك: ماذا تقصد؟ أنا لم أخلق هذا العالم، أنا فقط كتبت عنه في روايتي!
قال الساحر بصوت هادئ: إنك مخطئ، كل كلمة كتبتها أصبحت واقع. كل شخصية خلقتها في روايتك أصبحت حية هنا، وأنا واحد منهم.
سأل بذهول: كيف وصلت الى هنا!؟
- أنها قوة المرآة المسحورة التي تجعل الخيال حقيقة. عندما بدأت قراءة روايتك، استطاعت المرآة أن تجذبك، لترى عالم كلماتك بعينيك.
- وما الذي تريده مني الآن!
- لا شيء. أريد أن أشكرك على إنشاء هذا العالم الرائع، وأعرض عليك فرصة لا تعوض، دعك من نشر روايتك، وتعال لتعيش هنا ملكاً يأمر فيطاع. وتنسى حياتك البائسة في ذلك العالم الحقيقي التعيس الذي تعيش فيه.
- كلا. لا أريد أن أكون ملكاً. أريد العودة إلى حياتي وأصدقائي وعملي، فقط.
- أنت ألا تدرك ما تفوته؟ هذا هو عالم الأحلام والجمال والسحر والمغامرات. عالم يمكنك أن تفعل فيه كلما تشاء. عالم يحبك ويرحب بك على الدوام.
- لا. هذا عالم من الوهم لا يوجد إلا في خيالي. لا يستطيع أن يغير مصيري.
- إذا، عليك أن تختار. إما أن تبقى معي في زاريا وتستمتع بحياتك الجديدة السعيدة. أو تعود إلى حياتك وتخسر الإلهام! ولم تستطيع كتابة كلمة واحدة في قصة أو رواية بعد ذلك! فماذا تختار؟
- كأنك تحكم عليّ بالإعدام!
حاول أحمد الاستعانة بأصدقائه الذين خلقهم في الرواية، لكنهم كانوا ينظرون إليه ولم يحركوا ساكناً.
رفض عرضه واختار أن يعود إلى حياته الحقيقية. لكن سليمان لم يكن سعيداً بقراره، حاول أن يمنعه من الرحيل. وقع بينهما صراع شرس، حيث استخدم كل منهما قواه السحرية للتغلب على الآخر. في النهاية، تمكن أحمد من الوصول إلى المرآة المسحورة، وقال كلمة السر التي كتبها في روايته للعودة إلى عالمه، فتحت المرآة باباً ضوئياً، دخل فيه واغلقه خلفه. نظر سليمان إليه بنظرة حزينة وقال: وداعا، أيها الكاتب المغمور، أتمنى لك حياة سعيدة.
عاد الكاتب إلى غرفته، حيث كانت الرواية مفتوحة على الطاولة. اغلقها بسرعة، ورماها في سلة المهملات. شعر بالارتياح والسعادة لأنه نجا من زاريا، وقرر أن يبدأ حياته من جديد.
رن هاتفه، وكان على الخط محرر من دار النشر قال له بحماس: أنا معجب بروايتك، إنها رائعة ومبتكرة ومثيرة. أود أن أنشرها فوراً، وأتوقع أن تحقق نجاحا باهراً.
تردد قليلاً، قبل أن يقول: شكرا لك على اهتمامك واطرائك؛ لكني لا أستطيع نشرها.
- لماذا، هل هناك مشكلة؟ هل تريد المزيد من المال! أو تغيير شيء في احداثها؟
- لا شيء من ذلك. أنا فقط لا أريدها أن ترى النور. أعتبرها خطأ كبيراً في حياتي.
- كيف يمكنك قول ذلك؟ هذه الرواية عمل فني وإبداع، أبديت كل موهبتك فيها. هي فرصتك لتغير حياتك إلى الأبد وتصبح كاتبا مشهوراً ومحبوباً.
- بل أنها قيد لعقلي وسجن لروحي. أنها رواية مسحورة، احذر منها ولا تقرأها مجدداً!
- أنت تتحدث بجنون. زاريا والمرآة المسحورة وكل ما فيها من اشخاص ليسوا حقيقيين. هم مجرد شخصيات في روايتك. خيال من إبداعك فقط.
- كلا، هم حقيقة في عالم آخر. عالم خطير ومخادع. عالم سحرني وجذبني إليه، نجوت منه بأعجوبة.
- ما هذا الجنون. أنت تتخيل هذا كله. لا بد أنك تعاني من اضطراب نفسي وعقلي، وتحتاج إلى مساعدة طبية.
- أنا بخير. أنا فقط من يعرف الحقيقة. ويعرف ما يجب فعله. يجب أن أحطم المرآة المسحورة وأطمس هذا العالم السحري من الوجود.. ثم قطع الاتصال.
أخذ الرواية من سلة المهملات وخرج إلى الحديقة العامة، جلس على الأريكة، حاول أحراقها لكنه فوجئ بأنها لم تتأثر بالنار، بل انبعث منها ضوء أزرق ساطع، ثم سمع صوتاً مألوفا يقول: «أهلا بك مجدداً في زاريا»
لم يستطع الهرب من عالمه الذي خلقه، فالكتاب كان مرتبطا بروحه، كلما حاول أن يتخلص منه، يعود إليه بطريقة ما. وكلما فتحه يجد نفسه في زاريا، حيث كان الساحر سليمان ينتظره هناك!
الساحر لم يكن يريد أن يفرض على أحمد البقاء في زاريا، بل يحاول أقناعه بالانضمام إليه بإرادته. لذلك، كان يظهر له جوانب مختلفة من هذا العالم، ويعرض عليه مغامرات وتحديات وألغاز وأسرار. ويريده أن يشعر بالفضول والإثارة والسعادة في عالمه الخيالي.
لكن الكاتب لم يكن مهتما بذلك العالم، بل كان مصمماً على البقاء في عالمه الحقيقي. لذلك كان يبحث عن طريقة لتحطيم المرآة المسحورة، مصدر قوة سليمان وطريق الصلة بين العالمين. بات يعتقد بأنه إذا تمكن من تدميرها، سوف يتحرر من سحر زاريا، ويعود إلى عالمه. لكنها لم تكن سهلة المنال، فهي محمية بطبقة من السحر القوي، ومخبأة في قصر الساحر الذي لا يستطيع أحد الوصول اليها إلا بكلمة سر.
حاول أن يستعين ببعض شخصيات روايته، التي كان قد خلقها في عالمه. فهو ابتكر شخصيات مختلفة، مثل لمار، التي كانت أميرة جميلة، شجاعة وذكية، وزياد الصديق الوفي صاحب الشخصية المرحة، وبقية أصدقائه الاخرين.
فقد صور نفسه في روايته بطلاً يحب الأميرة لمار، ويرافقه زياد في مغامراته. لكن عندما التقى بأصدقائه في زاريا، لم يتعرفوا عليه. بعد أن غسل سليمان عقولهم بسحره، وجعلهم ينسون كل شيء عن حياتهم السابقة، وجعلهم خداماً له، وأتخذ من لمار الشابة الجميلة خطيبته له.
جند الساحر كل أصدقائه في خدمته، ويطيعون أوامره دون تردد. حزن أحمد كثيراً على حالهم، وحاول أن يذكرهم بمن هو، وبما كتبه عنهم في روايته. لكنهم لم يصدقوه، وظنوا أنه مجنون أو كاذب.
لم يستسلم أحمد، بل واصل محاولاته للتخلص من زاريا. فكر في خطة جديدة، وهي أن يستخدم الكتاب نفسه سلاح ضد سليمان؛ بعد أن أكتشف أن الكتاب يتغير باستمرار، ويعكس ما يحدث في زاريا. فكل ما يكتبه أحمد يصبح حقيقة فيها. قرر أن يكتب فيها «وفي تلك الليلة، حدث شيء غريب. اختفى القمر من السماء، وساد ظلام دامس. وسمع صوتا عالياً ينادي باسمه: أحمد، أحمد»
بعد أن كتب هذه الأسطر، حدث ما كتبه في زاريا بالفعل. فاختفى القمر من السماء، وغطى الظلام الأرض. وسمع أحمد صوتا يناديه من بعيد، تبع الصوت، ووجد نفسه أمام باب مغلق مكتوب عليه «هذا باب المرآة المسحورة. لا يستطيع أحد فتحه إلا بكلمة السر. وكلمة السر هي...»
فرح كثيرا، فظن أنه وجد طريقة للوصول إلى المرآة المسحورة. لكنه تعجب من أن الكلمة السر قد تم حذفها. حاول أن يتذكر ما كتبه في روايته عنها، ولم يستطع.
أخذ يجرب كلمات مختلفة، محاولاً فتح الباب. قال: «الخيال؟ الحلم؟ الإبداع؟ القصة» لكنه لم يُفتح. زاد توتره وقلقه، خوفا من أن يأتي سليمان ويمنعه من الوصول إلى المرآة.
فجأة، سمع صوتا آخر يقول: أحمد، أحمد. أنا هنا. التفت وفوجئ بأنها لمار وجدها تقف خلفه، تنظر إليه بعينين حزينتين. قالت له: أنا أعرف كلمة السر. أعرف ما كتبته في روايتك، وأتذكر كل شيء عن حياتنا السابقة.
دُهِشَ من كلامها؛ شعر بالفرح والأمل. قال لها: هل هذا أنتِ بالفعل؟ هل استعدت ذكرياتك؟ هل تذكرين ما كتبته عنك في الرواية؟
قالت له: نعم، لقد استعدت ذكرياتي، وسعيدة لعودتك.
شعر بالدهشة والسرور. قال لها: لكن كيف عرفتي الحقيقة!
قالت له: هذا بفضلك. عندما رأيتك تحاول حرق الرواية، شعرت بشيء يتحرك في قلبي. شعرت بأنني أعرفك من قبل، وبأنني أحبك من قبل. ذهبت إلى مكتبة سليمان، ووجدت نسخة مخفية من روايتك. قرأتها بسرية وعرفت الحقيقة. عرفت أنني أميرة في هذا العالم، وأنك بطل روايتك. وسليمان خطفني منك، وغير ذكرياتي وشخصيتي. وهذا عالم خيالي، والواقع هو عالمك فقط. لقد عرفت كل شي.
- كيف تمكنت الفرار من الساحر؟
- لقد استخدمت قوة الحب فهو أقوى من السحر. هو الذي جعلني أستعيد ذكرياتي وأقاوم سحره. وأجد طريقة للوصول إليك. أنا أعرف كلمة السر تعال معي نفتح الباب معا، ونكسر المرآة. ونهرب إلى عالمك.
ذهبا إلى الباب معاً، وقالا بصوت واحد: «الواقع» انفتح وظهرت المرآة المسحورة أمامهما. كانت تلمع بضوء أزرق براق، ظهرت صورة الساحر يقف وسطها بشكله الغاضب والمخيف. قال بصوت عاتي: ماذا تفعل؟ كيف تجرؤ على خيانتي وسرقة أميرتي! كيف تحاول تدمير هذا العالم الجميل. أنه الواقع وعالمك هناك هو الخيال!
لم يخف أحمد منه، بل تحداه وقال له: أنت طاغية كذاب. خطفت لمار مني بعد أن غيرت ذكرياتها ومحوت شخصيتها. جذبتني إلى هنا لتحبسني في عالم خيالي أنا من قام بكتابته. استخدمت المرآة المسحورة لجعل الخيال حقيقة والواقع خيال.
- أنت جاهل ضعيف. أنت لم تخلق زاريا بل أنا الذي فعلت. استوليت على روايتك، أضفت إليها ما شئت، جعلت من نفسي ملكاً عادلاً وحكيماً، جذبتك إلى هنا، وأردت أن أشاركك حياتي السعيدة؛ لكنك رفضت كل ذلك فعليك أن تتحمل النتائج.
- أنت كاذب وملك ظالم. لقد سرقت كلماتي وحرفتها عن مضمونها. جعلت من نفسك طاغية ومخادع، جذبتني إلى زاريا لتحبسني في عالم مزيف. ثم التفت إلى لمار وقال لها: هيا بنا. لنهرب ونعود إلى عالمنا الحقيقي.
جرها بيده وركض نحو المرآة المسحورة، محاولاً الخروج منها. لكن المشعوذ لم يدعه يفلت منه. أطلق عليه من عينيه شعاعا أزرق مثل البرق، شعر بعد اصابته بصداع شديد، بدأت ذكرياته تتضبب في عقله حتى نسي من هو وما حدث له. لا يعرف شيئا عن حياته، وعن لمار والعالم الذي تعيش فيه.
ابتسم الساحر وقال: هكذا يجب أن تكونوا؛ طائعون وسعداء بلا تفكير. هكذا يجب أن تكون زاريا؛ خالية من الشر والخيانة والمعارضة. ثم قال للمرآة المسحورة: اغلقي الباب؛ فانغلقت خلفهم، وانطفأ ضوؤها.
بقي الكاتب أحمد ولمار، حبيسي سحر سليمان هناك في زاريا إلى الآبد. فلم تطبع الرواية ولم يقرأها أحد، غير المحرر الذي وجد مقتولاً في حادث غامض بعد أيام من اتصاله بالكاتب.