الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
طريق العمر للشاعر سمير الصميدعي


طريق العمر للشاعر سمير الصميدعي

رحمن خضير عباس

 

 عن (دار المدى للإعلام والثقافة والفنون) صدرت المجموعة الشعرية الكاملة للشاعر سمير الصميدعي، والتي وضع عنوانا لها ب( طريق العمر)، كما تّرجم العنوان إلى الإنجليزية ب (lifemarkes ) وهو من مواليد بغداد، درس الهندسة وعلوم الحاسبات الإلكترونية في إنگلترا. شارك في العملية السياسية بعد سقوط النظام عام 2003  كعضو في مجلس الحكم، ثم وزير للداخلية، بعد ذلك أصبح الممثل الدائم للعراق في الأمم المتحدة، ثم سفيرا للعراق في واشنطن، وبعد ذلك ترك المعترك السياسي والدبلوماسي ليتفرغ للشعر والأدب والحياة، وليتحف القارئ بهذا الكتاب الذي يعتبر عصارة لتجربته الحياتية التي امتدت منذ بواكير صباه إلى اللحظة الراهنة، يفتح من خلاله لنا فضاءً شاسعا، لا تحده الأمكنة ولا الأزمنة.

        إنه الطريق؛ سِفْرٌ مفتوح، قابل لكل الاحتمالات، باعتباره مسارا عبر زمن محدود،تترصده نقاطٌ ومحطات، تتسلسل في تراتبية غير مفهومة، فالإنسان في أشعاره مسافر في خطوات غير مرسومة أحيانا، ومخطط لها أحيانا أخرى.  وكنتُ أتساءل بيني وبين نفسي وأنا منهمك بقراءة سطوره وقوافيه، لماذا لم يطلق الشاعر على أعماله الشعرية ( رحلة العمر) بدلا (من طريق العمر)؟  فلا أجد إجابة مباشرة وإنما سيل من الدلالات الشعرية التي تضمنها الديوان عن الرحلة التي تُشَكّلُ مجموعة من التجارب والاكتشافات، ولا تخلو من مغامرات، فهي توحي باختيار الفعل الرحلي بوصفه رؤية سردية تجريبية، لذا فاختياره للعنوان هو إصرار على دلالة التسلسل للأحداث التي توحي بالثبات على اتجاه واحد غير قابل للتبدل، وهو ما تختصره لفظة (طريق)، التي وجد الشاعر أنها أكثر دقة من رحلة.  وسواء أكان هذه اللفظة أو تلك فقد تضمنت قصائده العديد من المتاسبات، لم تخضع  لتاريخ محدد، ولكن القارئ يدرك الفترة التي قيلت فيها بدلالة المناسبة أو الشرح على الهامش، كما تضمنت المجموعة مواضيع مختلفة منها الغزل وشؤون السياسة والعلاقات الاجتماعية أو الإخوانيات ووصف الرحلات والأشخاص والمدن، وشعر المناسبات والأراجيز إضافة إلى الشعر الحر. لذا يصعب تقديم قراءة نقدية واحدة لهذه المجموعة، لأنها تحتوي على أنواع وأساليب مختلفة من الشعر، فمنها ما حافظ على الأسلوب الكلاسيكي للشعر العربي حيث الأوزان والقوافي، والتي تضمنت فيضا من الأفكار والعواطف والرؤى،في لغة شعرية تغرق في سحر المجاز، وتتلون بجمال الاستعارة، في أبيات وقوافٍ  تتراقص متنقلة بين موائد الجمال، لتقدم عبرة إنسانية، أو نغمة تواسي الروحَ، أو صورة فنية تُثير الدهشة. ولم يكتف الشاعر بكتابة الشعر العمودي، بل أردفه بقصائد التفعيلة التي تتوفر على الوزن، وتنفلت من رقابة وصرامة القافية، إضافة إلى الشعر الحديث الذي يميل إلى النثر، لتلائم  (الموظة) الشعرية التي تميل كفتها إلى الحداثة من شعر منثور وهايكو على حساب أصالة العمود التقليدي. ولم يكتف الشاعر بكتابة الشعر بلغته الأم فقط، أي العربية، بل اقتحم أسوار الشعر الأجنبي وأسراره ليكتبَ باللغة الإنجليزية .

  ومن هنا تأتي صعوبة الإحاطة بهذه المجموعة الكاملة ، نظرا لتنوّعها وكثرتها. لذلك لذتُ بقصائد الحب والغزل، لَعَلّي أعثر على ضالتي في الاقتراب من المبدع وتضاريس شخصيته الأدبية، معتمدا على أن الأشعار التي يسفحها على الورق والتي ما هي إلا ذلك الضباب الخفي الذي يختبئ في أعماق النص، ويعكس شخصية صاحبه. ولاسيما إذا كان محور الشعر هو الانجذاب لقيم الجمال والحب والإنسان، ومنه جمال المرأة  وصفاتها الجسدية والحسية ،أو ما يطلق عليه في التصنيفات النقدية تسمية الغزل، وهو  الأكثر قدرة على  البوح  بما يخالج النفس، في شهيقها لاستنشاق العالم، وفي زفيرها للتعبير عن مشاعرها عنه. 

  وكأن كل قصيدة من هذا الديوان  تتحول إلى محطة مستقلة من هذا الطريق، والقطار يصهل منتقلا بين البلدان والبشر والأصقاع المختلفة،بين قارات العالم وبلدانه،مما يوحي للقارئ بأن الشاعر عاش حياة عريضة، حافلة بالسفر والانتقال بين مدن العالم النائية، مما أكسبته تجارب مختلفة،وهو يتوكأ على عصا الترحال ، زوّادته ذكرياته عن الوطن الذي غادره منذ حين، والمدن الجديدة التي تتراءى إليه من نافذة السَفَر، ولعل ذلك يدعوني إلى نوع من المقاربة بينه وبين الشاعر الشيلي بابلو نيرودا،حيث أن كلا الشاعرين قد مارس العمل الدبلوماسي والسياسي،وكلاهما قد شد الرحال إلى بلدان مختلفة، وعبّا من رحيق الحياة بحلاوتها ومرارتها، وأخيرا فكلاهما أعلن انتماءه لعقلية المثقف المتشبع بقيم الحرية والجمال على حساب الدبلوماسي والسياسي اللذين يعيشان في كهف السلطة وفي ظلمتها.  

أما نيرودا فلم يكن  شاعرًا تقليديًا، يكتب عن الحب بشكل عاطفي فقط، بل حوّل الحب إلى فلسفة وجودية، واعتبره طاقة كونية تربط الإنسان بالعالم، وليس مجرد عاطفة بين كيانات بشرية.  وكان جريئًا في تصوير الجسد واللذة، لأنه لا يرى الحب منفصلاً عن الرغبة الحسية، فالجسد عنده طريق للانصهار بين عاشقين، ووسيلة للوصول إلى معنى أوسع ،كما يظهر الحب عنده مقرونًا ، بالغياب، بالمنفى. إذ يرى أن ما يبقى في الذاكرة من لحظة حب هو ما يمنح الوجود عمقًا ومعنى.

  كذلك شاعرنا الصميدعي الذي مارس العمل الدبلوماسي والسياسي بعقلية المثقف وعاطفة المبدع، لذلك جعل من الكلمة جسرا لتمرير رؤاه بوطن أجمل، كما أنه مثل نيرودا، فقد تنقل بين بلدان كثيرة، واكتسب الكثير من التجارب ،وجعل المرأة عنوانا للجمال والسمو والحب، حيث تذوب الحواجز الجغرافية والعرقية. المرأة ذلك الكيان الرقيق و الجميل والذي يتجاوز ما إلفناه، ففي إحدى قصائده  يصف لنا راقصة صينية وهي تؤدي الباليه بقوله:

"ذراعان مثل انسياب المياه/ وطورا كرفرفة البيرق/ وجذع يميد كغصن رطيب/   فيطوي على الأرض أو يرتقي"

 فلا يكتفي الشاعر بنقل الحركة المرئية، بل يحوّلها إلى إيقاع شعري ينساب في مخيلة القارئ. إن تناسق الجسد عنده ليس مجرد وصف فيزيائي، بل رمز لانصهار الجمال الشرقي في صرامة الفن الغربي. تنبثق الراقصة في نصه ككائن شفاف، تتدرج حركاتها من همسة ساق إلى خفقة ذراع، حتى يبدو الجسد وكأنه يكتب قصيدة صامتة على خشبة المسرح،من خلال الطيف الموسيقي المتنوع، وكل حركة من حركاتها تشبه الوميض الذي يتجلى بين السحب. يصف لنا التوازن والتناسق بين الجسد الأنثوي، محملا بالدفق الروحي هو ما يجعل اللوحة الشعرية للصميدعي ذات طابع خاص، حيث يتحول الباليه من تفاعلات وحركات للجسد إلى تجارب فنية إنسانية ، ومن ايقاعات حركية إلى لغة فنية.

 وفي قصيدة أخرى، يقدم رؤية شفافة وصادقة للحب، ويشبهه بالخمر المعتق بقوله:

" الحب كالخمر العتيقة زادها / مرّ السنين تذوقا وتزاكيا"فقد حمل النص عددا من الدلالات الجمالية والرمزية، باعتبار أن الخمر العتيقة أكثر لذة وأصالة من الحديثة،وكذلك الحب فهو لا يتلاشى بمرور الزمن،بل يتضاعف نضجا وعمقا وثباتا. كما أنه يقارن الحب بنشوة الخمر التي تبدو أنها لحظة ابتعاد عن الواقع، وهي تشبه الحب الذي يوقع العاشق في حالة من الانبهار والنشوة التي تجعله محلقا في أجواء الحلم، ويخرجه من وعيه العادي، ورغم ما يرافق ذلك الهوى من تجارب مريرة وصعوبات، ولكنه يكتسب الصفاء والاندماج المطلق،خاليا من الشوائب التي تعتري العلاقات العابرة.

  وفي قصيدة أخرى يقول : "ما لي أصاب بفيروس الهوى عجلا /فلا مناعة تحميني من النظر”

يتيح  لنا هذا البيت قراءة نفسية دقيقة، إذ يكشف عن حالة وجدانية مركّبة لدى الشاعر،فهو يستعمل كلمة “فيروس” التي توحي بأن الحب يدخل النفس على حين غِرّة مثل المرض المعدي، فيعصف بالوجدان، مما يعكس الشعور  بالعجز أمام قوة لا يسيطر عليها،لأن عنصر المفاجأة، لم تمنحه وقتًا للتأمل أو التحصن. هنا نلمس انفعالًا عاطفيًا.يعززها غياب الدفاعات المناسبة،حيث أن العاطفة اخترقت أعمق مناعاته النفسية، فالشاعر لا يرى الهوى مجرد تجربة جميلة، بل يضعه في إطار المرض المعدي، مما يعكس قلقًا وجوديًا وشعورًا بالتهديد من تجربة الحب، وكأنها سلبٌ للحياة الطبيعية أو للحرية الشخصية.

رغم أن الصميدعي قضى شطرا كبيرا من حياته في حقل الهندسة، وكان أحد رواد استخدام الكومبيوتر في الفن الإسلامي، وإنه اشتغل في السياسة في داخل العراق وخارجه، ولكنّه ينحاز إلى الشعر ، ويفخر بكونه شاعرا من خلال قوله:

 “أنا شاعر أحيا ومن يفنى فليس بشاعر”

 يحمل هذا البيت دلالات فلسفية عميقة، حيث يربط جوهر الشعر بقدرة الإنسان على العيش حقًا، لا مجرد وجود بايلوجي، كما يرى نفسه في حالة تجدد دائم،من خلال الوعي بالحياة بدلالة الفعل (أحيا )وهو نقيض ل( يفنى)، التي تعبّر عن حالة الفقر في الوعي،أو العيش مع القطيع بدون أثر ملموس، وذلك لأن الشاعر الحقيقي،هو من من يترك بصمته على الحياة، وهذا ما يصبو إليه. وكأنه يتقاسم الفكرة ذاتها التي قالها نيرودا ذات يوم:

"حتى لو مرّ الموت،فلن يأخذ إلا جسدي،أما الحب فسيبقى في الهواء،في البحر، في الأغاني التي يغنيها الغرباء "

 


مشاهدات 341
الكاتب رحمن خضير عباس
أضيف 2025/09/28 - 3:37 PM
آخر تحديث 2025/10/01 - 4:20 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 514 الشهر 514 الكلي 12040369
الوقت الآن
الأربعاء 2025/10/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير