نقطة ضوء
حوار على قارعة طريق
محمد صاحب سلطان
منذ سنين خلت، كنت أسير في أحد شوارع مدينة السلاطين التركية، وكان غاصاً بالسيارات المزمرة الناعقة، وكأنها أصوات حيوانات جريحة، وكانت تتقاذفني الغربة التي تنعدم فيها الهوايات، وتبقى فقط غريزة الكفاح من أجل الحياة، فجأة، إرتطمت من دون وعي، بجسد مار بجانبي، إلتفت صوبه للإعتذار، وإذا به يبتسم، ويتعالى منه صوت لم يكن غريبا على مسمعي، وهو يقهقه عاليا، وتذكرت سريعا عائدية هذا الصوت، التي تعود إلى زميل وشقيق من الخليج العربي، جمعتني وإياه أول مرة، دورة أقامها إتحاد الصحفيين العرب، بمركز الإهرام في القاهرة عام1998لمديري التحرير، وكنت والزميل قاسم المالكي (رحمه الله) نشكل وفد نقابة الصحفيين العراقيين ، ضمت طيفا متنوعا من الصحفيين من مختلف الاقطار العربية، أمضينا مدتها،وكأننا أسرة واحدة،و لم نكن نفترق عن بعضنا البعض، مجموعة سادت بينهم الألفة وحب المهنة وطرفة المواقف وسخونة الحوارات وإحتدام الجدل، حول قضايا كانت مثار نقاش وخلاف، كل منا يعبر عن وجهة نظره من زاوية قد تبدو مخالفة لوجهة نظر الآخر، لكنها سرعان ما تختفي في الأماسي وجولات الزيارات السياحية التي نظمها لنا الأشقاء، في مختلف عموم المدن المصرية، التي تلوح في أفقها المصابيح التي لم تطفئ مثل كرات الفضة وهي معلقة في الهواء لمناسبة الذكرى 25 لحرب تشرين 1973، تذكرت أفعال زميلي الطيب هذا، وهو يثير البهجة والضجيج في آن واحد، لسماحة قلبه وحلاوة لسانه وبراءة أفعاله، كلما تجمعت الوفود الصحفية في صالة إستقبال الفندق، فهو صاحب نظرية (الضجيج خير طريقة لطرد خفافيش الأفكار السود، وخير طريقة لجذب عصافير الأفكار الوديعة).. وصديقي هذا ، فضلا عن كونه يمتهن الصحافة، قاص وناقد، له رأي غريب في مفهوم السرد، كتبه بشكل إجابة لحوارصحفي، مبينا (إن القصة ما هي إلا مجموعة من الأكاذيب تشبه الحقائق، ولهذا يفشل غالبية القصاصين العرب، لإنهم يكتبون حقائق تشبه الأكاذيب!).
وفي لقاء إسطنبول الشوارعي، إحتضنني بحرارة ،وكعاته في الطرح، بادرني بالسؤال: وينك يا أخا العرب؟ إفتقدناك، ولماذا أنت هنا بالتحديد (سياحة، عمل، نسوان!)،،أجبت بذات نبرة السؤال: لم أخترها ،ولكن ألقتني بها عصا الترحال كما تقول العرب!، تقاعدت وظيفيا ولكن عشق المهنة ما زال يصارع ذاتي.
أجاب: ما زلت في قلبي منذ إفترقنا، فأنتم العراقيون مغالون في كل شئ، في عنادكم وحبكم، أنتم الأوائل، علما وهوسا، وأرضكم تزرع الطيب الذي يفوح شذاه في كل مكان، والحياة عندكم، صفقة ضخمة تعقد مع القدر!، ويسترسل، أتذكر الشريط الغنائي (الكاسيت) الذي أهديته لي، وفيه أغان عراقية ساحرة الصوت واللحن والمعنى، وفي إحداها يقول مطربها (صاحب صحيبك سنة وبعد السنة جربه)، و(لو تصاحب خوش صاحب لو تظل من غير صاحب).. فما أروع نقاؤكم وتطرف محبتكم، وبلادكم بجهاتها الأربع، تنبت الخير والنماء وتنبذ الفوضى، أتمنى أن تنعم بالسعادة، وتنفض عن كاهلها كل ما يعيق تقدمها.
فالسعادة منطقة غير منظورة، قد يدخل إليها المرء من دون أن يدري، ولهذا السبب تكون الذكريات جميلة، فنجد فيها قدرا من الحلاوة لا يصدق، كما إلتقيتك اليوم.. وأعذرني فقد أزف الرحيل وقرب موعد طائرتي، فأنا اليوم مثل قطة متشردة تبحث عن مأوى!، بعد أن هربت من مدينتي بحرارتها شديدة الإرتفاع، حتى ظننت أن الدجاج الذي يتقافز أمامي في حقل الأهل، كان يضع بيضا مسلوقا من شدة الحر!!.
وأختتم قوله: أودعك على أمل لقاء قادم، لا أعرف أين، ولسان حالنا، صرخة زميلنا التونسي.. هرمنا!!.