أذن وعين
عندما كذبت على الرئيس عارف
عبد اللطيف السعدون
سنحت لي فرصة الاقتراب من الرئيس الراحل عبد السلام محمد عارف مرات عديدة بحكم عملي كمذيع في راديو بغداد آنذاك، وفي إحدى تلك المرات، في منتصف عام 1963، كلفت بواجب مرافقة عارف في زيارة له لمدينة الموصل، وفي تجمع جماهيري في المدينة ارتجل خطابا تضمن كعادته العديد من الشطحات المثيرة، ومن بينها تعرضه بالزعيم الكردي مصطفى البارزاني في وقت كانت فيه العلاقة متوترة جدا بين الحكومة والأكراد، والجيش يحضر لحملة عسكرية ضد المتمردين، وأتذكر قول عارف: «كانوا يلومونني لأنني قلت مرة للبارزاني (برو.. برو)، واليوم أقول للبارزاني أمامكم برو.. برو.. وألف برو!»
وعند عودتنا الى بغداد قدمت الشريط الذي سجل عليه الخطاب الى مدير البرامج الإعلامي الراحل زكي الجابر (الدكتور ورئيس قسم الإعلام في جامعة بغداد لاحقا) لغرض الايعاز ببثه، وبالصدفة كان في مكتبه وزير الثقافة والإعلام آنذاك المرحوم علي صالح السعدي (أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث) الذي استفسر مني عن مضمون الخطاب فأبلغته بما ورد فيه، ومن بين ذلك إشارته المسيئة للبارزاني، وكان أن أمر بحجب الخطاب المذكور وعدم إذاعته.
ومرت أيام قبل أن أكلف مرة أخرى بواجب مرافقة الرئيس في زيارة له للواء الرمادي (محافظة الأنبار اليوم) للاطلاع على واقع المنطقة التي كانت قد تعرضت لفيضان نهر الفرات الذي غمر مساحات زراعية واسعة، وصحبني في المهمة المهندس الفني المرحوم عبد القادر الدهاس، ولدى وصولنا مدينة الرمادي كان قد سبقنا الرئيس عارف ومرافقوه الذين استقبلهم متصرف اللواء (المحافظ) في منزله لتناول الشاي استعدادا للقيام بجولة تفقدية في المناطق المنكوبة، ولدى دخولنا المنزل اقتربت من مرافق الرئيس المرحوم عبد الله مجيد لتلقي التوجيهات الخاصة بالزيارة.
تغطية إذاعية
وفي تلك اللحظة رأيت الرئيس يشيح بوجهه عنا ويقول لمجيد: «ما أريد إذاعة.. خلي يرجعون»، وما لبث مجيد أن أخذني الى مسافة أبعد قليلا ليهمس في أذني أن الرئيس غاضب من عدم بث خطاب الموصل، وهو لا يريد أي تغطية إذاعية، وعلينا العودة أدراجنا الى بغداد، وحاولت أن أبرر له عدم إذاعة الخطاب، ولكنني لم أشأ أن أقول الحقيقة لإدراكي أن ذلك قد يجر إلى أمور أخرى، وتفتق ذهني لحظتها عن كذبة قد تكون مقبولة، قلت له أننا اكتشفنا أن عطلا طارئا في جهاز التسجيل سبب تلف الشريط، ويبدو أن مجيد صدق هذه الكذبة، وكان أن استدرك ليقول: «ابقوا هنا الى أن نرجع من الجولة.. ونشوف بعدها».
وهكذا خرج الرئيس ومرافقوه واستقلوا السيارات للذهاب إلى مناطق الفيضان، وبقينا، أنا وزميلي الدهاس، ننتظر، وبعد أكثر من أربع ساعات عادوا وقد بدا عليهم التعب، واتسخت ملابسهم بالطين والتراب، ودخلوا للاغتسال استعدادا لتناول طعام الغداء الذي كان معدا في الصالة، وعندها أقبل المرافق علينا مبتسما ليبشرنا بأنه أبلغ الرئيس بما جرى، وعلينا أن نتقدم للاعتذار منه، وأعدت من جانبي أمام الرئيس الكذبة بتفصيل أكثر، وبدأ مصغيا لي ثم ضحك وهو يقول: يعني تريدون نعيد الجولة حتى تسجلوها؟ قلت: هذا ما نتمناه، وهو ما جئنا من أجله، هنا التفت إلى مرافقيه، وسألهم: ماذا تقولون؟
وقبل أن ينتظر الإجابة قال: توكلوا على الله، ونهض، وهنا قال له المتصرف; سيدي الغداء حاضر.. أجابه الرئيس: الغداء بعد الجولة، وهنا لاحظت أن الوجوه اكفهرت وتركزت علي، ولعلهم أمطروني في أعماقهم باللعنات.
بعد أربع ساعات أخرى كنا على مائدة الغداء وعلامات التعب والجوع بادية على وجوه الجميع باستثناء عارف نفسه الذي كان يتحدث بمرح، وقد حمل بيده صحن (كباب) وقدمه لزميلي المهندس الدهاس قائلا له: «أعرف أنك تاكل هوايه»، وبالفعل فإن الدهاس كان معروفا بنهمه وشراهته في الأكل، ولعل الرئيس لاحظ ذلك في مناسبات سابقة.
وفي واقعة أخرى أثناء زيارة مدينة الموصل حيث جرى استقبال جماهيري خطب فيه الرئيس، وفي إشارة له عن الوحدة العربية هتفت الحشود: «عاش القائد الأسمر جمال عبد الناصر»، وقد لاحظت أنه كان ممتعضا من الهتاف، ولما تكرر الهتاف صاح: «مو آني أسمر أيضا»! ومن خلال مرافقتي للرئيس عارف في أكثر من مناسبة لاحظت أنه يتصرف بتلقائية وتواضع، وفي أحيان كثيرة لا يهتم بقواعد البروتوكول التي يفرضها موقعه المتقدم كرئيس للبلاد.