الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شمعةٌ في ظلامِ العراقِ: حكايةُ الأُمِّ الصابرةِ

بواسطة azzaman

شمعةٌ في ظلامِ العراقِ: حكايةُ الأُمِّ الصابرةِ

زين العابدين الصافي

 

في أطهرِ إرجاءِ الوطنِ العربيِّ، حيثُ تجتمِعُ فيهِ عظمةُ التاريخِ وجمالُ الثقافةِ، إنَّهُ العراقُ العظيمُ والمدينةُ النقيةُ في وَسَطِهِ (واسِط) مدينةُ التابعيِّ الجليلِ سَعيد بْنِ جُبَير (ع)، حيثُ كانت هُناكَ امرأةٌ عِراقيةٌ قويةٌ ومُكافِحَةٌ، تَعيشُ خَلفَ أبوابِ منزلٍ صغيرٍ، هي أُمٌّ لَدَيْها ثلاثةُ أولادٍ وحفيدٌ صغيرٌ وَهُمْ شُعلَةُ الأمَلِ التي تُضاءُ بِها حياتُها، فتعيشُ حياةً مليئةً بالصُّعوباتِ والتَّحدِّياتِ، حيثُ تَسْعى بِكُلِّ قُوِّتِها لِتقديمِ الرعايةِ والحنانِ لِأفرادِ عائِلَتِها في ظِلِّ الظُّروفِ القاسيةِ التي يَمُرُّ بِها وطنُها، فتَكتَسِبُ قُوَّتَها مِنْ حُبِّها العميقِ لِعائِلَتِها وإصرارِها على مُواجَهَةِ الصِّعابِ بِكُلِّ شَجاعَةٍ، لِغَرَضِ إيصالِ أبنائِها لِمُستَقْبَلٍ مُشرِقٍ وزاهِرٍ، فاقْتَطَفَتْ ثِمارَ أحَدِ أبنائِها (الأوسط) الذي حَصَلَ عَلى تعليمٍ جَيِّدٍ وتَخَرُّجٍ مِنْ (مَعهد المُعَلِّمينَ/ فرع واسط)، وعَلى الرغمِ مِن اهتِمامِهِ بمجالِ التعليمِ، إلَّا أنَّ أولوياتِهِ تغيَّرت حالَما سَمِعَ بتهديدِ داعش لبلَدِهِ (العراق) رَغْمَ أنَّه كانَ يطمَحُ بالتأثيرِ الإيجابيِّ في حياةِ الأجيالِ الصاعِدَةِ كَمُعَلِّمٍ، فَقَدْ شَعَرَ بواجبٍ أكبر نحوَ وَطَنِهِ وشَعبِهِ ومُقَدَّساتِهِ في تِلْكَ اللحظاتِ الحَرِجَةِ. وفي إحدى الليالي الباردةِ من شهر مارس (آذار) لعام 2014م في محافظةِ واسِطَ كانت الأُمُّ العراقيةُ تَجلِسُ بجانِبِ نافذةِ مَنزِلِها الصغيرِ، تنظُرُ إلى النُّجومِ في السَّماءِ كما كانتْ مُعتادَةً دائماً، وَإذا بصديقٍ لهم (للعائلة) يطرُقُ البابَ في تِلكَ الليلةِ الباردةِ جداً، يأمُلُ هذا الصَّدِيقُ مِنْ أحَدِ أبناءِ العائِلَةِ أن يُدَرِّسَهُ مادَّةَ الفيزياء؛ لأنَّه مُدَرِّسٌ، فيقدمَ لَهُ المُساعَدَةَ في فَهْمِ المادَّةِ بِكُلِّ صِدْقٍ وإخلاصٍ، إلّا أنَّ وضعَ العائلة تغيَّرَ في تلكَ الليلةِ العصيبةِ، بانقطاع التيار الكهربائي وتَعَطُّلِ مُوَلِّدِ المنزلِ، وكان الأدهى أنْ أتَتْ الأنباءُ المحزنةُ بسرعَةِ وتلاشَت الآمالُ المُشْرِقَةُ كَالبَرْقِ إذ قَدِمَ شخصٌ آخَرُ مِنْ أقارب (العائلة) طارقاً البابَ مُخبِراً باستشهادِ ابْنِهِمُ (الأوسط) في مُحافَظَةِ الأنبارِ في إحدى المعارِكِ ضِدَّ داعش وأعوانِهِ، فانطَفَأَ بهذا الخبرِ أحَدُ مصابيحِ مَنزِلِها، وتركَ في قلبِها ألَماً لا يُمكِنُ تَحَمُّلُهُ مُنْذُ ذلِكَ الحينِ، فأصْبَحَت الأُم تَبكي بحُرقَةٍ على فُقدانِ ابنِها الغالي، مُرَدِّدَةً عبارةَ: اليومَ انطَفَأتْ شمعةُ بَيتي (مصباح منزلي)، ففي تلكَ اللَّحَظاتِ الصَّعبة اختلطَ الحُزنُ بالأَمَلِ والتضحيةِ، وفي زاويةٍ أُخرى من البيتِ يَبكِي الحفيدُ ويصرَخُ بَعدَ أن سَمِعَ صوتَ بُكاءِ جدَّتِهِ فانفجرت المشاعرُ في البيتِ، لأنَّ البُكاءَ تعبيرٌ عَفَوِيٌ عن حالَةِ الحُزنِ والصَّدْمَةِ التي مَرُّوا بها في مِثلِ هذه اللحظاتِ العصيبةِ، وبينما يَسْتَمِرُّ بُكاءُ (الحفيد) يكونُ لِجَدَّتِهِ دورٌ مُهِمٌ وبارزٌ في مُواجَهَةِ هذه الحالَةِ رَغْمَ ألَمِها الشديدِ، فَتَقْتَرِبُ منه وتُحاوِلُ تهدئَتَهُ بعِناقٍ دافئٍ وكلماتٍ تُواسِيهِ بها، فَتُشارِكَه الأَلَمَ الذي يَشْعُرُ بِهِ، هكذا هي الأُمُّ العراقيةُ، أمّا البيتُ فَقَدْ أصبحَ مملوءاً بالصَّمتِ الثقيلِ والغِيابِ المُؤْلِمِ، تَعِبَتْ تِلْكَ الأُمُّ مِنْ مُحاوَلَةِ مَلْءِ الفراغِ الذي تركَهُ ابنُها (الأوسط) بكلماتِ وضِحكاتِ الباقينَ، ولكِنَّها لَمْ تُفلِحْ سِوى في إظهارِ قُوَّتِها أمامَ العالَمِ الخارجيِّ؛ فَقَدْ كانتْ تنامُ كُلَّ ليلةٍ وعيناها تَسيلانِ دُموعاً بِصَمْتٍ، وقلبُها ينزِفُ بِصَمْتٍ أعمق، رغمَ ذلكَ تعلَّمَتْ تِلْكَ الأُمُّ - مَعَ مُرورِ الزمنِ - أن تعيشَ بذكرياتِها وتُخَلِّدَ روحَ ابنِها البَطَلِ في قلبِها وقُلوبِ مَن في بيتِهِ، فَعَلَّقَت الأُمُّ صورةَ ابنِها على الحائطِ، كَأنَّها تُراقِبُهُ وتُحَدِّثُهُ في كُلِّ لَحظَةٍ، تتحدَّثُ في سِرَّها وتروي لَهُ أخبارَ العائلةِ والمدينة، وتسألُهُ عمّا كانَ فخوراً بفعلِهِ لِوَطَنِهِ، وعلى الرغم من ألَمِها العميقِ، فإنّها استمرَّتْ في مُساعَدَةِ الجيرانِ والمُحتاجينَ في منطقتِها كَأنَّها تَعلمُ أنَّ ابنَها الشهيدَ كانَ يُؤْمِنُ بالعطاءِ والعملِ الجماعيِّ، فقرَّرَتْ أنْ تُواصِلَ رسالَتَها مِنْ خِلالِ مُساعَدَةِ الآخرينَ ونشرِ الخيرِ في الوطنِ الذي حَلمَ ابنُها بتحقيقِهِ، فَصُمودُها الخارقُ وقُوَّتُها الروحيةُ تُظْهِرُ في ثناياها الأمَلَ بالرغمِ من الصدمةِ التي عاشَتْها هذهِ الأُمُّ بفقدانِ فلذةِ كَبِدِها (ابنِها الأوسط) في مُواجَهةِ داعش وأعوانِهِ، فَلَمْ تُشَكِّل الصدمةُ عائقاً أمامَ تحقيقِ النجاحِ الباهرِ لِباقي أفرادِ عائلَتِها، ومَعَ مُرورِ الوقتِ بَدَأَت الأُمُّ في مُشارَكَةِ قِصَّةِ ابنِها الشَّهيدِ مَعَ العالَمِ، لِتسليطِ الضوءِ على التضحيةِ والبُطولَةِ التي قَدَّمَها لوطنِهِ، فأصبَحَتْ قِصَّةَ ابنِها الشهيدِ مَصدراً للأملِ ولإلهامِ الكثيرِ ورمزاً للتحدِّي في مُواجَهةِ الصِّعابِ، فَتُجَسِّدُ هذهِ القصةُ صِراعاً بينَ الفقرِ والخسارةِ والتحدياتِ، وكيفَ يُمكِنُ للحُبِّ والإيمانِ أن يُلْهِما صاحِبَهُما ليتجاوزَ الصَّعابَ، وبالرغمِ مِنْ أنَّ أحَدَ مصابيحِ منزلِها قد انطفأ، إلّا أنَّ ضياءَ ابنِها الشهيدِ اسَتمرَّ يَشِعُّ في قلبِها، فَلا يَخفى هذا على لَبيبٍ حينَ يقرأُ هذهِ القِصَّةَ المؤثرةَ، فيتساءَلُ: مَنْ هُوَ كاتِبُ هذهِ القِصَّةِ لِهذهِ المَرأةِ الحديديةِ؟ فيكون الجوابُ: أحدُ أفرادِ هذهِ العائلة التي حَقَّقَتْ لَهُ الأُمُّ مُسْتَقْبلاً زاهراً ليسَ لَهُ مثيلٌ، والختامُ هو السلامُ على شُهَدائِنا الأبرارِ.

 

 


مشاهدات 224
الكاتب زين العابدين الصافي
أضيف 2025/09/24 - 3:10 PM
آخر تحديث 2025/09/26 - 10:41 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 563 الشهر 19219 الكلي 12037092
الوقت الآن
الجمعة 2025/9/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير