دير بالك على الغراض من سبورة المحاويل إلى مصفى بيجي
احمد جاسم الزبيدي
ما أجمل الذكريات، خصوصاً ذكريات الطفولة التي تحولت في غربتنا المبكرة إلى “ترياق” نلجأ إليه كلما ضاقت بنا الدنيا. غربة لم تبدأ بجواز السفر ولا بحقيبة على ظهر، بل بدأت حين خطفتنا السياسة صغاراً، ثم جرّت الحروب والحصار أذيالها علينا، فمسخت الشخصية العراقية، ونفتها عن نفسها قبل أن تنفيها عن أوطانها.
كنت أحيا جسداً بعيداً عن المحاويل، لكن الروح ظلت معلقة هناك: في حارتنا، في عراك الصبية، في هروبنا من المدرسة كأننا نتمرن مبكراً على “الفرار من الوطن”. عامر، أحمد، حامد، جميل... أسماء صارت اليوم كالعطر الباقي في زجاجة فارغة. وكم بكيت ليلاً حين جاءني خبر استشهاد أحدهم: برصاص الأمن، أو في حرب مع الجيران، أو إعاقات تركتهم نصف أحياء.
لكن دعوني أترك وجع الغربة لأحدثكم عن رجلٍ صار “ماركة مسجلة” في ذاكرتنا: جارنا، قريبنا، ومعلمنا المرحوم حمزة كنعان (أبو مازن). كان وجهه عابساً كتمثال سومري، لكن قلبه يضحك قبل لسانه. أحبّنا نحن الأطفال كأننا أولاده، وكان درسه كرنفالاً من النكتة والمرح.
أول ما يدخل الصف يرفع إصبعه كمن يلقي بياناً سياسياً ويقول:
ـ “ما يجوز شرب الحار والبارد... يطلع دم من اللثة «
فنردّدها جميعاً بشغف، كأننا نهتف في مظاهرة ضد “ العدوان الصهيوني «!
أما المشهد الأعظم فكان حين يختار أحد الكسالى ليذهب إلى السبورة. يمسك عصاه، لا ليضرب، بل كأنه مايسترو أمام فرقة موسيقية، ونحن نصفق ونهتف خلف “الضحية” ذاهباً وعائداً:
ـ “دير بالك على الغراض... دير بالك على الغراض»!
هذه الأهزوجة الطفولية عادتني وأنا أتابع “أهزوجة الكبار” في زمننا الراهن. تخيلوا: أكبر مصفى نفطي في العراق ــ مصفى بيجي ــ يتبخر على مئة شاحنة، يختفي كما تختفي بسكوتة من يد طفل جائع، ثم يُعلن بكل وقاحة: “لقد عثرنا على الغراض... في أربيل»!
لا أحد قال لنا: من الذي سرق؟ من الذي باع؟ كيف هُرّبت؟ ولماذا عادت ليلاً كاللصوص؟! كل ما فعلوه أنهم صفّقوا مثلنا في الصف، كأن الدولة نفسها تردّد:
ـ “ دير بالك على الغراض... دير بالك على الغراض» !
فيا قادتنا الأفاضل، بالأمس كنّا نهتف وراء أستاذنا: “دير بالك على الغراض»
ونحن لا نفهم سوى دفاتر وطباشير... أما اليوم، فأنتم من يجب أن تحفظوا “غراض الوطن” من النهب والضياع، قبل أن تتحول الأهزوجة الطفولية إلى مرثية وطنية.
ملاحظة للقراء العرب: إذا لم تفهموا معنى الأهزوجة، اسألوا أي عراقي بقربكم، وسيهتف في وجهكم مباشرة:
ـ “دير بالك على الغراض