صراع خلف الحدود
ثامر محمود مراد
في أحلك الأوقات وأقساها، حين كانت الأيام تمرّ بلا طعم ولا معنى، تجرّ خلفها ظلال الجوع والعطش والخوف، اجتمع رجلان في معسكر الأسر: أبو مازن وأبو مراد. لم تكن القيود من حديد فقط، بل كانت من قسوة الحياة التي لا ترحم، ومن فراغ الروح الذي يحاصر الأسير في غربته. لكن وسط هذا الليل الطويل، اشتعلت شعلة صغيرة من الأمل. قرر أبو مراد أن يمنح لصديقه أبو مازن ما يستطيع أن يمنحه: العلم. صار أبو مراد أستاذًا للغة الإنكليزية، يشرح الدروس بين جدران المعسكر القاسية، فيما جلس أبو مازن بكل اهتمام، يلتقط كل كلمة وكأنها قطرة ماء تروي عطش المعرفة. كان التعلم هناك أشبه بالتحرر، وكان الدرس بمثابة نافذة تُفتح على عالم آخر أوسع من حدود السجن والأسلاك الشائكة. مرّت الأعوام، أحد عشر عامًا كاملة من الصبر والإصرار، لم تنكسر فيها العزيمة. ومع الزمن، صار أبو مازن هو الآخر مدرّسًا لمادة اللغة الإنكليزية، يثبت أن ما زُرع في القلب لن يضيع، وأن المعرفة أقوى من القيود. لم تكن العلاقة بين الرجلين مجرد صداقة عابرة، بل كانت رابطة روحية خالدة. أبو مراد لم يكن معلمًا فقط، بل كان رفيق درب وصوتًا يبدّد صمت السجون. وأبو مازن لم يكن تلميذًا فقط، بل صار شاهدًا حيًا على أن الأمل يمكن أن يُولد حتى في قلب المحنة. واليوم، لا يستطيع أبو مازن أن ينسى أبا مراد، ولا يمكن لأبي مراد أن يغيب عن ذاكرة أبي مازن. لقد ارتبطا برباطٍ يتجاوز حدود الزمن، رباطٍ يظلّ شاهدًا على أن الإنسان حين يتكاتف مع أخيه الإنسان، يمكنه أن يحوّل أقسى الأيام إلى بداية لحياة جديدة.
في صمت المعسكر، حيث كانت الريح تجرّ الغبار فوق الأسلاك الشائكة، جلس أبو مازن على الأرض متكئًا إلى الجدار البارد. كان الجوع ينهش أحشاءه والعطش ييبس حلقه، لكن الأشد قسوة من كل ذلك كان الفراغ… فراغ الأيام التي تمر بلا معنى. اقترب منه أبو مراد، وعلى وجهه ابتسامة تخفي خلفها صلابة السنين، وقال:
ـ "أتعلم يا أبا مازن؟ لو تركنا هذه الأيام تمضي هكذا، سنموت قبل أن نموت."
رفع أبو مازن رأسه بتعب:
ـ "وماذا نصنع؟ القيود أقوى منّا."
جلس أبو مراد بجانبه وقال بحزم:
ـ "لا، ليست أقوى من العلم. سأعلّمك الإنكليزية… هنا، بين هذه الجدران."
نظر أبو مازن إليه بدهشة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة كأنها ومضة أمل في ليل طويل. ومنذ ذلك اليوم صار السجن مدرسة، وأبو مراد صار معلمًا، وأبو مازن تلميذًا متعطشًا لكل كلمة. مرت الأيام، والأسلاك من حولهما لم تتغير، لكن داخل روحيهما وُلد عالم آخر. كان أبو مازن يكتب الكلمات على التراب بعود صغير، ويعيدها بصوت خافت كأنها تعاويذ تحميه من اليأس. وأبو مراد يصحح له، يشجعه، ويقول دائمًا:
ـ "تذكّر، نحن لا نتعلم اللغة فقط… نحن نتعلم الحرية."
أحد عشر عامًا مرّت. أحد عشر عامًا من الجوع والخوف والانتظار، لكنها لم تذهب هباء. خرج أبو مازن يومًا من المعسكر، يحمل في قلبه كنزًا لا يفنى. صار هو الآخر مدرسًا للغة الإنكليزية، ليكمل ما بدأه صديقه ومعلمه. ومع مرور السنين، بقيت الذكرى محفورة في القلب: لم يعد أحدهما يستطيع أن ينسى الآخر. لقد ارتبطا برباطٍ لا تقطعه المسافات ولا تنهيه الأيام، رباطٍ صنعته المحنة وحفظته الروح حتى الممات.