خطة ترامب لانتشال إسرائيل وأمريكا من وحل الجرائم في غزة
سمير عادل
إذا نجحت خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المكوّنة من ٢١ بندًا، في لجم الالة العسكرية الاسرائيلية المتوحشة في غزة، فهي بحق ضربة معلم لإيقاف تدهور سمعة إسرائيل ورئيس حكومتها المطلوب أمام المحكمة الجنائية الدولية، بنيامين نتنياهو، وإنقاذ اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية التي تلطخت سمعتها عالمياً ببحر الجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.
الأهداف التي أعلنها نتنياهو عند شنّ حربه على سكان غزة بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ كانت القضاء على يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي والعقل المدبّر للهجوم على غزة، وتفكيك حماس وهزيمتها عسكرياً، وإعادة الرهائن. فقد قُتل يحيى السنوار قبل أشهر، على يد المافيا المسماة “الجيش الإسرائيلي”، فيما تحقق في إطار خطة ترامب الهدفان الآخران اللذان فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيقهما، بعد أن قُتل أكثر من سبعين ألف إنسان، جلّهم من النساء والأطفال، ودمّرت مقومات الحياة، وحوّل قطاع غزة إلى أرض غير قابلة للعيش.
أمّا الأهداف الخفية وراء تلك العملية —التي لم تكن حرباً بالمعنى التقليدي، إذ تقتضي الحرب وجود طرفين متحاربين، بينما ما سُمّي بـ«جيش الدفاع» لم يواجه سوى بشرٍ عُزل تُهدَم بيوتهم على رؤوسهم ويُقتنَص منهم عشرات يومياً— فهي في الجوهر تصفية فكرة الدولة الفلسطينية والقضاء على الشعب الفلسطيني في غزة إما بالقتل أو بالتجويع أو بالترحيل. وهذه الأهداف، كما جرت العادة عبر أكثر من سبعة عقود، فشلت في تحقيقها أمام صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته.
إن الخاسر في هذا المشهد السياسي هو حماس، سواء نجحت خطة ترامب أم لم تنجح. وصحيح أن حماس، شأنها شأن حزب الله في لبنان، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، ومرشد النظام الإسلامي علي خامنئي في إيران، تملك معياراً خاصاً لـ”الانتصار” تحاول تسويقه للعالم عند التراجع أو الهزيمة، إلا أن الحقيقة الواضحة أن حماس لم تكن تتوقع أن يشتد الخناق عليها بهذا الشكل. والمقصود هنا ليس الخناق العسكري، بل السياسي.
وما تقوله حماس عن أن عملية السابع من أكتوبر كانت وراء اعتراف دول جديدة بالدولة الفلسطينية ليس إلا محاولة يائسة ومشوّهة، تهدف بالأساس إلى تقديم العزاء لنفسها والتخفيف من وطأة الخسارة السياسية وإنقاذ صورتها أمام الداخل الفلسطيني، وإلى تعزيز موقعها في منافستها السياسية مع منظمة التحرير الفلسطينية. بينما الحقيقة أن الاعترافات جاءت نتيجة لجرائم الدولة النازية المسماة “إسرائيل”، التي نسفت الرواية الإسرائيلية التي طالما أرهقت بها آذان العالم وأعمت عيونه، ولم تكن عملية حماس في السابع من أكتوبر الا مبرر لاطلاق العنان لالة القتل الوحشية.
في المقابل، تحوّلت القضية الفلسطينية إلى قضية أممية بامتياز، متجاوزة كل الأطر القومية والدينية في المنطقة. فقد حاول التيار القومي العروبي احتكارها والمتاجرة بها، ثم التقطها التيار الإسلامي السياسي بعد فشل ذلك التيار القومي وبرامجه الاقتصادية والسياسية، ليسوّق بدوره أجندات خاصة يتخفى وراءها.
وأكثر ما يزيد من وطأة الخسارة على حماس هو أن أبرز داعمي جماعة الإخوان المسلمين بل وعرابيها، تركيا وقطر، باركا خطة ترامب، وهو ما يعد بمثابة رصاصة رحمة للمشهد السياسي لحماس في غزة.
دونالد ترامب، الذي سبق أن طرح مشروعه المعروف بـ”رفيرا غزة” أو بعبارة أخرى تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة لإقامة منتجعات سياحية مكانهم، والذي صفّق له اليمين العنصري والمجرم في حكومة نتنياهو، يعود اليوم ليتراجع عن مشروعه. ليس لأنه شعر بالندم أو أدرك فجأة أنه يصطف إلى جانب جرائم أجداده في قتل وتهجير الهنود الحمر والاستيلاء على أراضيهم، وليس لأنه رجل سلام، وهو لم يرفّ له جفن أمام قتل عشرات الأطفال بالألة العسكرية الاسرائيلية؛ بل لأن هذه الخطة هي محاولة أخيرة لإنقاذ سمعة ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية التي غرقت بقدر ما غرقت إسرائيل في وحل جرائم غزة.
إن خطة ترامب لا تحمل أي جديد سوى ما طُرح سابقاً بصيغ مختلفة على لسان الوسطاء: التي جوهرها إطلاق سراح الرهائن، تفكيك حماس، إعادة الإعمار، وغيرها. الجديد فقط هو فرضها عنوة على نتنياهو بعد ما يقارب ٧٢٤ يوماً من الإبادة الجماعية، كما أقرّت اللجنة التحقيقية المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة، التي اعتُبر تقريرها تتويجاً للغضب العالمي المتصاعد. هذا الغضب تقوده النقابات العمالية في عقر دار داعمي إسرائيل، إذ نظّمت إضرابات واسعة باتت تمتد إلى قطاعات عديدة.
وغضب الاتحادات العمالية يعني إغلاق المصانع والموانئ وشلّ الحياة الاقتصادية، أي إلحاق الخسائر المباشرة بجيوب الشركات التي تموّل ممثليها السياسيين في حكومات تلك الدول. وفوق ذلك، فإن الهوية الغربية المبنية على عناصر حقوق الإنسان والديمقراطية، التي تشكل جزءاً أصيلاً من بنية الرأسمالية الغربية وهيمنتها على العالم، بدأت تتمزق وتتهرأ، وباتت تفقد مواقعها في الشرق الأوسط والعالم.
إن الجديد في خطة ترامب في جوهرها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هيمنة الولايات المتحدة على العالم. فجانب من اعتراف بعض الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا التي قادت الحملة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، يمثل تمرداً على واشنطن. فالقضية الفلسطينية كانت دائماً قرباناً لصراع الإقطاع الإمبريالي والرأسمالية العالمية.
واليوم، ومن أجل احتواء الغضب العالمي ومنع الانحدار السياسي لهذه الدول، التي هرعت لزيارة إسرائيل بعد السابع من أكتوبر وتسابقت لمباركة حكومتها العنصرية، نجدها هي ذاتها تهدد بفرض عقوبات على إسرائيل وتسارع إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية بالوتيرة نفسها التي تسابق فيها الرؤساء والمسؤولون الغربيون على زيارة إسرائيل بعد السابع من أكتوبر.
وأخيراً، فإن خطة ترامب في إيقاف الالة القتل الإسرائيلية في غزة-وليس حرب كما تسوقها إسرائيل والإدارة الامريكية- لن تستطيع أبداً طمس الوجه اللاإنساني لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، التي قدّمت كل أشكال الدعم لدولة الاحتلال النازية إسرائيل، ولن تتمكن من إنقاذ نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين من قبضة البشرية المتمدنة الغاضبة، والتي من أبرز عناوينها المحكمة الجنائية الدولية، مهما فعل ترامب ومهما زمجر وتفاخر، سواء بتسويق نفسه كرجل سلام أو بالدفاع عن جرائم إسرائيل.