الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
يوسف يرى الفنّ الطريقة الأجمل لمواجهة الإندثار

بواسطة azzaman

يوسف يرى الفنّ الطريقة الأجمل لمواجهة الإندثار

ذاكرة ثقافية تحمل عبء الهوية التشكيلية في بابل لعقود

في مدينة الحلة، حيث ينام الفرات على ضفاف التاريخ وتستفيق الأساطير في ملامح الوجوه، ولد الفنان والكاتب سمير يوسف عام 1947، كأنما لتضع المدينة في مهده حبّها للفن، وشغفها بالحرف، ونبضها الطيني الذي يتلوّن بماء الحضارات. لم يكن مجرد رسّام أو معلم فني، بل حامل رؤيا، ومرآة عصر، وذاكرة ثقافية حملت عبء الهوية التشكيلية في بابل لعقود.

بدأ سمير يوسف مسيرته في معهد الفنون الجميلة، وتخرّج عام 1969 بدبلوم فنون تشكيلية، لكنه ما أن خطّ أولى خطواته في سلك التعليم، حتى بدأت مدينته الصغيرة تتسع بحجم أفكاره. تنقّل بين مدارس الحلة مشرفًا وموجهًا ومربّيًا، ثم اختتم خدمته الوظيفية مشرفًا تربويًا حتى عام 2010، ليكرّس سنوات التقاعد لإبداع متجدد، لا يعرف السكون.

غير أن الحلة لم تكن بالنسبة له مجرد مكان عمل، بل حاضنة لفن وجدان، وذاكرة مغموسة بالألوان والتراث والنبض الشعبي، وقد بادلها العشق فعاد إليها في كل معرض، في كل مقال، وفي كل تأمل بصري أو نقدي.

انتماؤه للنقابات والجمعيات الثقافية لم يكن انخراطًا شكليًا، بل فعل تأسيسٍ دائم. كان من مؤسسي فرع بابل لنقابة الفنانين، ومسؤول الشعبة التشكيلية فيها لسنوات طويلة، كما كان من أوائل المنخرطين في جمعية التشكيليين العراقيين. أنشطته لم تتوقف في إطار الفن وحده، بل امتدّت إلى الصحافة، حيث نشر رسومه ومقالاته في مجلات عراقية رصينة كـ»الجنائن» و»المرأة العراقية» و»الفيحاء»، مؤكدًا أن الريشة والقلم لا يفترقان حين يحكمهما وعي ناضج وثقافة رصينة.

امتلك سمير يوسف قدرة نادرة على المواءمة بين الحرف واللون، فكان الكاتب الذي يشرح التشكيل بلغة دقيقة، والفنان الذي يلوّن المقال بلقطات بصرية. أقام تسعة معارض شخصية منذ سبعينيات القرن الماضي، وتوزعت تلك المعارض بين قاعات الحلة وبغداد والقاهرة والحبانية، وكان آخرها في 2022 على قاعة نقابة الفنانين بمناسبة يوم تمصير الحلة، وكأنما أراد أن يوثق لحظة التمدّن بريشة رجل من ترابها. تنوّعت معارضه بين الرسم الكلاسيكي، والتجريد، والكاريكاتير، مما يكشف عن عمق أدواته وتعدّد طبقات وعيه البصري. وكانت رسومه، كما يشير النقاد، مشبعة بالرمز والبيئة، مستلهمة من الطين البابلي والأنوثة العراقية والزخرفة الفراتية.

لم يكن الفن عند سمير يوسف مقصورا على القماش والفرشاة، بل كان ميدان تأمل وتأريخ ونقد. كتب عن الحركة التشكيلية البابليّة في مؤلفات صدرت تباعًا، أبرزها:

لمحات تشكيلية لمعلم التربية الفنية (2007) ، تأملات في الفن التشكيلي البابلي المعاصر (2022)، الحركة التشكيلية البابلية المعاصرة من 1956 إلى 2018، الذي طبع مرتين، إضافة إلى مشاركته في تأليف التاج: تجليات حلية، وفنانون بابليون، وكتاب نقدي عن منجز الفنانة أشواق الكاهجي.

هذه المؤلفات، كما رأى بعض النقاد، تمثّل مشروع تأريخ للفن المحلي في بابل، وتكاد تكون وثائق بصرية ونقدية مكتملة، تؤرخ وتشرح وتضيء الطريق للأجيال الجديدة من الفنانين. لقد وصفه البعض بأنه «المؤرّخ الصامت لفن بابل»، فيما اعتبره آخرون «ضمير الجيل الذي رسم المدينة بالكلمات كما بالألوان».

عيون النقاد

يرى النقاد أن سيرة سمير يوسف تمثّل دربًا طويلًا من التماهي بين الفن والرسالة، فهو فنان لا يكتفي بالإنتاج، بل يواكب بالحفر النقدي، والتوثيق الحي. أشاد الناقد صلاح عباس بتنوع أدواته بين الريشة والمقال، واعتبره أحد القلائل الذين صنعوا «مدوّنة بابلية للفن العراقي»، بينما وصفه آخرون بأنه «المعلم الذي لم يغادر صفّه أبدًا، حتى وهو في المعارض والكتب والصحف».أما الشاعر الراحل شكر حاجم الصالح، الذي رافقه في بعض المؤلفات، فقد كتب مرة: «في رسوم سمير يوسف شيء من جدران بابل... تصدّعت لكنها لا تزال تنبض».

وقد بلغ عدد مشاركاته في المعارض والفعاليات الفنية أكثر من 85 مشاركة، عدا عن مساهماته في تصميم أغلفة كتب الشعراء ورسوم القصائد، وكأنه اختار أن يكون الظلّ البصري للنصّ المكتوب، يضيء ما خلف الحرف بخطّ نابض وميلاد ضوء.

وتوجت مسيرته الحافلة بعشرات الأوسمة والشهادات، من وزارات التربية والثقافة والشباب، ومن جهات رسمية وأهلية، منها وسام الإبداع العراقي، وقلادة الإبداع من مجلس محافظة بابل، ودرع هواجس للإبداع، إضافة إلى أكثر من 75 شهادة تقديرية و50 كتاب شكر.

وفي الختام لا يُمكن اختزال الفنان سمير يوسف في صفة أو مهنة أو مرحلة، لأنه خلاصة روح مدينة، وصوتٌ خافت لمبدع صبور، ظلّ يرسم على جدران الأيام، ويكتب في هوامش الزمن، ويؤمن أن الفنّ هو الطريقة الأجمل لمواجهة الاندثار.

هو الفنان الذي لم يهادن الركود، ولم يغادر الساحة حتى وهو يطوي صفحة الوظيفة. سمير يوسف، بابليٌّ ظلَّ وفيًّا لمدينته، وصار أحد معالمها، كما تمثال، أو جدارية، أو سطر لم يُمحَ بعد من ذاكرة الطين.

 


مشاهدات 206
أضيف 2025/09/21 - 2:08 PM
آخر تحديث 2025/09/26 - 8:36 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 112 الشهر 19349 الكلي 12037222
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير