أذن وعين
مظفر النواب.. ما له وما عليه
عبد اللطيف السعدون
لم يترك لنا معارف وأصدقاء مظفر النواب الشاعر والمناضل الملاحق معظم سنوات عمره ما نقوله عنه، نحن الذين لم يقدر لنا أن نقترب منه أو نلتقيه الا لماما، أو عبر وسائط الميديا، وقد شاهدناه من خلالها وسمعناه، وقرأنا له، وتملكنا تجاهه مزيج من مشاعر الاعجاب، والانبهار، واستفزنا في أشعاره ما جعل اسمه ينطبع في وجداننا منذ أن قرأنا أولى قصائده «للريل وحمد» قبل ستين عاما.
جاءته الشهرة منقادة لم يسع اليها كما لم يفكر فيها، وتلقف الناس أشعاره في كتب طبعت مرات، منها طبعات مزورة ومستنسخة لم يعرف ناشروها لكنه لم يسع الى التحري عنهم ومقاضاتهم، ولم يصله منها دينار واحد.
رفض أن يكون مرتبطا بسلطة، كما رفض أن يحسب على سلطة حتى في فترات اقتراب رفاقه الشيوعيين من الحكم، ورفض عروضا عدة ليكون «مسؤولا رسميا»، عرض عليه صدام حسين عندما استقبله ابان «عرس» الجبهة الوطنية موقعا متقدما في وزارة الثقافة لكنه اعتذر، وطلب أن يسمح له بالسفر الى بيروت لطبع مجموعة شعرية له، وفي تلك المقابلة أهداه صدام «مسدسا»، وعندما عاد الى بغداد بعد الاحتلال بدعوة من جلال طالباني عرض عليه الأخير منصب «مستشار في رئاسة الجمهورية» واعتذر عن قبول المنصب مكتفيا بجواز سفر دبلوماسي يعينه على التنقل بين العواصم من دون منغصات.
قرأ أشعاره عراقيون من مختلف الطبقات، وأعجبوا بها كما نحن، وهو أكثر الشعراء العرب ممن كانت أشعارهم يتم تداولها سرا، وحتى الحكام الذي نال منهم في قصائده وشتمهم على نحو مقذع كانوا يستمعون اليها بأعجاب.
شريط فيديو
يقال ان صدام حسين كان يغالب دموعه كلما سمع شريط فيديو له مع أنه خاصم البعثيين وتعرض للاعتقال ابان حكمهم لكنه استطاع الهرب الى ايران بنية الوصول عبرها الى الاتحاد السوفياتي، وألقى الإيرانيون القبض عليه وسلموه الى سلطة بغداد التي حكمت عليه بالسجن المؤبد، وطلبت منه أن يتبرأ من حزبه، وسجل موقفه بالرفض في قصيدة على لسان أمه: «يا ابني، لا تثلم شرفنا، يا وليدي، البراءة تظل مدى الأيام عفنه، قطرة قطرة وبنظر عيني العميته، كلي (قل لي) ما أهدم حزب بيدي بنيته»، وفي «عرس» الجبهة الوطنية» أطلق سراحه وسمح له بالسفر، ومن بيروت الى دمشق حيث طاب له المقام فيها بعد أن استضافته الدولة في منزل خاص به، ثم ما لبث أن ترك دمشق الى طرابلس مستضافا هذه المرة من قيل القذافي، وتنقل بين ظفار واريتريا والخرطوم، وأوروبا أيضا، وبعد احتلال العراق استجاب لدعوة صديقه جلال طالباني للعودة الى وطنه لكنه لم يمكث سوى فترة قصيرة رجع بعدها الى بيروت وقد نال منه المرض وانكفأ على نفسه، فلم يكتب بيتا شعريا واحدا ضد الاحتلال، ولم يعلن بصوته الذي كان يوما ما المعبر عن جرح وطنه الذي كان وصفه من قبل بأنه «جرح كبير، ما لمته ديرة ناس، ولا نامت عليه الكاع»، كما لم ترد منه كلمة واحدة في رفض حكم المحاصصة الطائفية الذي شرعنته الولايات المتحدة، أكثر من ذلك لم يتردد في اعتبار مقاومة المحتلين «ضربا من الخيال»، ولم يقف ساخطا امام مشاهد وحشية المحتلين كما لم يعط من وقته ليتأمل في المرارات التي يعيشها مواطنوه متجاهلا ما يحدث أمام عينيه.
ومن مكر التاريخ ان يقرر مظفر، في أواخر أيام حياته، الالتجاء الى دولة الامارات طلبا للعلاج، وهو الذي قال في حكامها، والحكام العرب عموما، ما لم يقله مالك في الخمرة، ولم تخيب الامارات ظنه اذ استقبلته بحفاوة ووفرت له متطلبات علاجه حتى قدر له ان يلفظ أنفاسه الأخيرة على أرضها، وهو القائل: «أصافح الليل مصلوبا على أمل/ أن لا أموت غريبا ميتة الشبح»، ومن مكر التاريخ أيضا أن يصل جثمانه الى عاصمة بلده على ظهر طائرة «رئاسية» خاصة، وهو الذي كان جند نفسه في شبابه حربا على كل الرئاسات والسلطات وممارساتها وطقوسها، والمفارقة اللافتة أن تعزي الولايات المتحدة العراقيين بوفاة النواب، وأن تصدر سفارتها في بغداد بيانا تصفه فيه ب»المعبر عن أصوات العراقيين وتطلعاتهم»!
وقد نال شاعرنا من المجد كما نال من السخط الكثير، وعلى أية حال فقد غاب عنا في يوم بغدادي أغبر «مثل ما تنقطع تحت المطر شدة ياسمين»، ورحل عنا بكل ما له وبكل ما عليه.