أصابع لينا العاني تغزّل الموروث بروح العصر
ريشة تحوّل الحزن العراقي إلى بهجة وكرنفال لوّني
بغداد – رياض الدليمي
تسعى التشكيلية لينا العاني لتوظيف المؤهلات الذاتية منها العلمية والخبرات والتدريب في صياغة فن بصري متعدد الاساليب والأدوات والحرف والأشغال ، من أجل انتاج منحوتة ولوّحة وحليّ واكسسوارات وأزياء تحاكي ذاتها وثقافتها وهويتها بشقيها الوطني والبيئي الحاضن لها ، لتكون سفيرة وممثلة لبلدها ولإرثها وعمقه التاريخي وهي تتنقل بين بلدان العالم حاملة وطنها بكل ما يحمل من حضارات وفنون وفنون شعبية وقصص أدب وأساطير . لينا العاني تصيغ مفرداتها الفنية بروح عراقية صرفة وكأنها الحارس الأمين لتراث العراق، فتجهد نفسها لتحوّل الحزن العراقي الى بهجة وكرنفال لوّني وأزياء فخمة للدلالة على هيبة المرأة العراقية ودلال وحنكة عشتار ، فهي تنظر للمرأة العراقية كسلالة الّهية شامخة بفنها وحكمتها وابداعها ومساهمتها في بناء حضارات تركت للعالم خزينا معرفيا وثقافيا وفنيا وأدبيا زاخرا ، فمازالت تعدّ سرا غامضا وعصيّا على الفهم ، كيف استطاع أبناء الرافدين أن يتخيلوا هذا الوجود بكل عنفوانه وأسراره ، فيحاكونه أدبيا وفنيا ومثيلوجات وأساطير كما في (أسطورة الخلق البابلية وكلكامش) التي تصفه هذه الأدبيات بتخفيف الضغط المهول على حياة الانسان وفكره من المخاطر التي تلّم به من كل حدب وصوب ، فيخلّق البابلي ومن قبله السومري والأكدى تفسيرات وتأوليات لهذا الخلق ويصنع آلهته التي تحاول أن تحميه من شدة المخاطر والقلق وتبني الأسوار البابلية والآشورية ، وتخلق له (الآنا نوكي) التي هي سفيرة الأرض الى السماء كما يعتقدون في ذلك الوقت.
زوايا لونية
وتجسّد العاني النقوش والتعويذات بألوّان الفيروز على بوابات المدن وعلى واجهات البيوتات العراقية لتحميه من شرور الحساد والطامعين والدخلاء بإرث العراق وخزائنه، فلا تتوانَ العاني أن ترى وتبصر العراق من زوايا لوّنية زرق وخضر وقرمز كما تراه بضميرها وقلبها على أنه بلد الميعاد وبلد الشمس وبلد العبادات والفلسفة وذا المنجز الحضاري، لهذا جاءت لوحتاها (عيون بغداد وعشتار و دلال بغدادي) ضمن هذا السياق البصري كفاعل حضاري وصانع مجد ونبراس يضيء عتمة العالم والفكر الانساني . لينا العاني حفيدة نازك الملائكة ونزيهة سليم وزُها حديد اللائي تركنّ بصمات خالدة في الذاكرة العراقية من اِرث ابداعي قلّ نظيره ، فتحاول العاني أن تكمل مسيرة مبدعات العراق كرموز وطنية، فهي تتخذ أي – لينا العاني - من اللوّن والخشب والزجاج والمعادن والقماش لعبتها المفضلة لإنتاج مكنونات فنية أبهرت مشاهديها ومقتنيها.
يعدّ التراكم المعرفي والثقافي لدى العاني قد أهلها لتشكل موهبتها، فصاغت بأصابعها ذات السحر المهاري أعمالا أدهشت المتلقي من خلال انتاجها الفني الغزير في مختلف أنواع الفنون منها الأشغال اليدوية أو الفن التطبيقي أو الحرفي والرسم والنحت ، ومحاولتها الابتكار الفني من خلال توظيف العناصر والأدوات والخامات في صناعة مادة فنية وقطع تحفيّة وألبسة تراثية منقوشة ومُحاكة ومرسوم عليها أو موشوم عليها رموز عراقية من تراث وعلامات وسيميائيات ترمز لحضارات العراق والموروث الشعبي الذي يمثل تراث مختلف مناطق العراق من شماله وغربه وجنوبه الى شرقه بروح معاصرة وتقنيات حديثة لتظهرها بأبهى حلّة ومظهر، فهنا تكتشف لمسة الفنانة بالخلّق وبالوقت ذاته فيه روح العرض كسلعة ثمينة يطمح كل من يشاهدها أن يقتنيها كتحفة أو ملبس أو تزيّن جدار بيته وزواياه، فهي تجمع بين حرفية الفن وحرفية التسويق، وفي هذا الصدد تصرح قائلة : (أرسم اللوحات كما أرسم على الملابس والزجاج وأعمل أيضاً فيز النحت والطباعة على الشموع وتنسيق الزهور الطبيعة ، وأحاول استخدام المعادن والأحجار والخشب والريزن في أعمالي وأدمجها مع الرسم). تحاول لينا العاني من خلال ولعها بفن الكرافت أن تنتج قطعا فنية رسما أو نقشا على مختلف المعادن والخامات والتصاميم منها ما يوحي الى الرسوم الشخصية أو مستلهمة أفكارها ووشومها من التراث العراقي (لم تكن الدراسات الفنية الشاملة ترى في فنون الكرافت إلا صناعة يدوية بارعة ، ولكن مدرسة الباوهاوس الألمانية الشهيرة قبل الحرب العالمية الثانية مزجت ما بين الصنعة الدقيقة والفن التشكيلي الحديث حتى أنها دفعت ببعض رساميها إلى إنتاج أعمال وظائفية كالكراسي والطاولات بحيث يلتقي تصميمها مع الأفكار الفنية التي يحملها الرسام). ولا تستطيع العاني أن تغادر الحياة والأحداث اليومية لتفاصيل الحياة العراقية الحاضرة والماضية وما يساعد الفنان في هذا المنحى خاصة اذا قضّى حقبة كبيرة يعيش مرارة الغربة وهو بعيد عن وطنه، فترى كل ما ينتجه معجون بالحنين الى تلك الأمكنة التي تركها وغادرها قسرا وخاصة ما عانى منه العراقيون من حروب وحصار واحتلال، فأقصت هذه الظروف أبنائه - كمن يقصي الروح عن الجسد - بعيدا بالمنافي والأقاصي، فلن يسعف قلبه ولواعجه الا الذكريات لتلك الأزمنة الجميلة التي تعيش في خاطره حيّة نابضة، فلا تقدر العاني أن تفارقها رغم أجواء استراليا وأوربا الصاخبة، فالحنين الى الرحم الاول وللأرض هو وجع دائم، لهذا جاءت اعمالها تنبض بالجماليات للأمكنة العراقية من شناشيل وشوارع وتضاريس وجغرافية وطبيعة ووجوه الناس المترفة بالوجع والخوف أو الامل أحيانا رغم تلك المواجع، فالعراقي لم يعرف عنه اليأس والانطواء والابتعاد عن ركب الحضارة مهما عصفت به الأحداث ، ولهذا تأتي معروضاتها ومعارضها الفنية ضمن هذا النسق الذي تؤكد فيها العاني هويتها بكل عمقها العريق وجماليات ، فهي تصنع من الطرّق والخزف واللوّن والأزياء بزكرشتها وتصاميمها ابداعا تشكيليا بهيجا.
فلعاني لينا لا تغادر البيئة العراقية في تشكيلاتها فهي ملهمتها وغذائها الروحي، وخاصة أنها تنحدر من مدينة (عانة) مدينة النواعير والطيب والتاريخ الذي يمتد الى آلاف السنين، ففيها من الخصب الحضاري لان يجعل من أبنائها مبدعين ومتفوقين فمختلف المجالات (تعدّ مدينة عانة من أقدم مدن العالم التي ما تزال مأهولة حتى الآن ولمدة 42 قرناً، وقد ذكرت في المخطوطات البابلية والمخطوطات العائدة لآشور ناصربال الثاني وتوكولتي- نينورتا الثاني، وذكرها مؤرخون مثل أميانوس مارسيليانوس وزوميوس والقديس إيسيدور الإشبيلي وأبو الفداء. وتشير بعض المصادر القديمة إلى أن مدينة عانة كانت تمتد على ضفتي النهر بحسب بيدرو تكسيرا ديلا فاليه في رحلاته ، لكن ليونهارت راوولف والذي سبقهما في زيارته لمدينة عانة عام 1574 فقد نوه إلى أنها كانت مقسمة إلى جانبين أحدهما تركي محاط بالنهر ولا يمكن الوصول إليها إلا بالقارب أما القسم الآخر العربي الأكبر فيقع على الجانب الآخر من النهر).