الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
اتحاد الأدباء

بواسطة azzaman

اتحاد الأدباء

 الحلقة الأخيرة

حسن النواب

 

ذات ليلةٍ بعد أنْ أغلق نادي الأدباء أبوابه؛ تسلَّلتُ إلى قاعة الأماسي لأهجع تحت مقاعدها وقبل أنْ أغفو؛ وإذا بجان دمُّو يدخلُ مترنحاً؛ كان متذمراً وساخطاً ولم يعلم أني سبقتهُ إلى المكان. جلس محبطاً على مقعدٍ في القاعة وانبرى يحدِّّثُ نفسه بمرارةٍ وهو يحثُّها على إيجاد وسيلة للخلاص من الشقاء الذي يلازمهُ في كل ليلة؛ والزيف الذي يحيط به ويكاد يكتمُ على أنفاسه؛ ثمَّ بدأ يؤنِّب نفسه على ملابسه الرثَّة التي يرتديها؛ وقد ضاقتْ به السُبل لإيجاد مكانٍ مناسبٍ لغسلها، وفي لحظةٍ غير متوقعةٍ خلع قميصه البالي لينهض ويغسلهُ تحت صنبور الماء الكائن في باحة الأدباء الخارجية؛ لكنَّ قواهُ خذلتهُ وداهمهُ النعاس ليغطَّ بنوم عميق على مقعده وقميصه بين يديه. بعد مضي ساعةٍ من الوقت، سمعتُ لغطاً خارج القاعة ولما اشرأببتُ بعنقي من نافذة جانبية لأستطلع ما يحدث؛ وإذا بثلاثةٍ من الغرباء يبدو على مظاهرهم الثراء، وقد جاء لهم النادل بمقاعد وطاولة على عجل؛ وبدأوا يشربون ابنة الكروم من الصنف الثمين في باحة الأدباء مع ثلاثٍ من بائعة الهوى تبدو عليهنَّ الثمالة وقد جلستْ كل واحدة منهنَّ بحضن رجل؛ خمَّنتُ أنَّ هؤلاء يجيئون بين حين وآخر ليكملوا سهرتهم هنا مع خليلات مبتذلات بعد إغلاق النوادي الليلية ويدفعون ثمناً سخيَّاً لمتعهد النادي أو النادل مقابل ضيافتهم لساعات بهذا المكان؛ وهكذا تحوَّلَ الاتحاد إلى مكان ليلي في سنوات الحصار؛ برغم الإيرادات الوفيرة التي كانت تصلهُ في كل عام من كلية تمَّ افتتاحها في ديالى؛ وكنت حاضراً بتوقيع العقد بين رعد بندر بوصفهٍ رئيس الاتحاد والمستثمر؛ بعد مفاوضات استمرت لشهرين حتى حصلت موافقة رئاسية على افتتاح تلك الكلية باسم اتحاد الأدباء كمالك قانوني لها وحتى الآن؛ وقد تناولت وجبة طعام دسمة في مطعم خان دجاج برفقة جواد الحطاب بصفته أميناً عاماً للاتحاد والمستثمر الذي دفع فاتورة الحساب عن طيب خاطر. والشيء بالشيء يذكر؛ إذْ ربما لا يعرف معظم الأدباء أنَّ هناك منزلاً فخماً يقع بالقرب من شارع «أبو نوأس» تعودُ ملكيتهُ إلى اتحاد الأدباء؛ هذا المنزل كان مقرا لاتحاد الأدباء والكتاب العرب حين انتخب الشاعر حميد سعيد أميناً عاماً لاتحاد أدباء العرب؛ وقد أهداهُ الطاغية للاتحاد بتلك المناسبة؛ وكان يسكنهُ أحد العاملين في الاتحاد مع عائلته عندما تفقَّد ذلك المنزل خالد مطلك خلال سنوات الحصار وكنتُ بصحبتهِ. منزلٌ بطراز بغدادي لا يقدر بثمن؛ ولا أدري لماذا اتحاد الأدباء لا يشير إلى ذلك المنزل الثمين في التقرير المالي الذي كان يعرضهُ على الهيئة العامة خلال الانتخابات في كل دورة؟ أضف إلى بناية الجمعية الاستهلاكية المملوكة من قبل اتحاد الأدباء والكائنة مقابل القصر الفضي والتي تحوَّلت إلى مأوى لبعض الأدباء مع عوائلهم. بعد سقوط الطاغية استبشر الجميع خيراً من اتحاد الأدباء، لكننا فوجئنا أنَّ هيئته الإدارية التي تشكَّلتْ في ذلك الوقت قدْ سارعت لتمنح رئيس الوزراء الجعفري هوية الاتحاد، وبرغم مكانة الرجل الثقافية والتي لا غبار عليها؛ لكنَّ الأمر لم يكن يستدعي هذا التملُّق الفج والرخيص؛ وتوجَّب عليهم أنْ يضعوا نصب أعينهم الجواهري قبل قرارهم العاطفي بتقديم هوية الاتحاد لذلك الرجل الوقور؛ بالوقت التي كانت المواقع الثقافية متبرّمة وساخطة من نشاطات الاتحاد التي أصبحت حكراً على مجموعة من الأدباء دون سواهم، كما أنَّ الإيفاد لحضور الفعاليات خارج البلاد يكادُ ينحصر في دائرة المقربين إلى إدارة الاتحاد، وبرغم أنَّ الاتحاد كان يحرص على تقديم هؤلاء الأدباء المدللين في كل مرَّة، لكنَّ الذي نعرفهُ بحكم تجربتنا الطويلة والقاسية في شؤون الأدب والثقافة؛ أنَّ المؤسسة الثقافية مهما كان شأنها وعلو كعبها؛ قدْ أخفقتْ من إنتاج أي مبدع من خلف منصتها، لأنَّ الإبداع يولد بمنأى عن تلك المؤسسات؛ وأنَّ المبدع الحقيقي هو من يُضفي الشرعية على اتحاد الأدباء والمؤسسات الثقافية، وأنَّ ما جرى من احتكار للأماسي في اتحاد الأدباء من قبل أنصاف موهبين؛ كان قبض ريح؛ حين توهموا أنهم بتكرار حضورهم الممل سيبسطون شهرتهم على الآخرين، أقول لهؤلاء أنتم على وهم كبير، ومثلما ذهب غيركم إلى أدراج النسيان ستلحقون بهم أيضاً. ربما يزعم بعض الإداريين في الاتحاد أنهم أقاموا لشخصي الصعلوك أصبوحة يوم عدت للبلاد قبل أكثر من عشرين عاماً، فأقول لهم صراحة لا تجعلوا تلك الأصبوحة منَّّةً في عنقي؛ فلقد أقيمت لي أمسية شعرية خاصة في قاعة الاتحاد قبل أكثر من ثلاثين عاماً؛ يوم كان معظمكم على مقاعد الدراسة المتوسطة؛ ومع أني كنت مشرَّداً في الشوارع؛ لكن المعنيين بالشأن الثقافي في ذلك الوقت التفتوا إلى نصوصي ولم يأبهوا الى صعلكتي وأقاموا لي أمسية هائجة غصَّتْ بالحاضرين. ولذا أقول بلا تردد؛ كنتُ صاحب الفضل عليكم لأني قبلتُ بتلك الأصبوحة قبل أكثر من عشرين عاماً عندما عدتُ إلى البلاد؛ ذلك أني وبتواضع شديد أعرف حجم موهبتي أمام حجوم بعضكم التي لا تهش ولا تنش في حديقة الإبداع العراقي؛ ولعلَّ الفضيلة الوحيدة التي لا أنكرها؛ أنكم خصصتم غرفة صغيرة لمبيت القادمين من المحافظات البعيدة اسميتها غرفة البلاد في شهادتي التي قرأتها في تلك الأصبوحة؛ تلك الغرفة البائسة التي اندثرت مع تجديد بناية الاتحاد. ولكي نحافظ على الإبداع من السخام وغبار الزيف أقول لجميع المبدعين؛ لقد فرحتُ حقاً حين أفاق اتحاد الأدباء من محسوبياته وعلاقاته الشخصية أخيراً؛ وانتهج خطاباً إبداعياً حرَّاً وناصعاً ونبيلاً بمنزلة الحصيري ورشدي العامل وعبد الستار ناصر وحاكم محمد حسين وغيرهم من كوكبة المبدعين، وما نشاطاته الأخيرة في ملتقى خميسه الإبداعي أو نادي القصة والشعر والمسرح والسينما؛ إلاَّ دلالة عافية مكتنزة بالأمل وصفعة ناطقة بالبيان والتبيين لكل النكرات الدخيلة على الإبداع؛ وعلى من يسعى إلى إطفاء القناديل المبدعة في اتحاد الأدباء؛ استمروا، استمروا، استمرواحتى تفرُّ هلعةً كل خفافيش الظلام من سماوات أرض السواد.


مشاهدات 63
الكاتب حسن النواب
أضيف 2025/02/03 - 3:17 PM
آخر تحديث 2025/02/03 - 5:52 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 438 الشهر 1467 الكلي 10296838
الوقت الآن
الإثنين 2025/2/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير