الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الاجنحة المنكسرة  في سماء وطنها الجريح

بواسطة azzaman

قصة قصيرة

الاجنحة المنكسرة  في سماء وطنها الجريح

قاسم المعمار

 

-              في احيان كثيرة يكون عشق التأمل للماضي الجميل فرصة سانحة لاستجلاء الحياة مشاهد وشخوص بين الحين والاخر فيها لذة واشباع للحاجة الروحية والمشاعر الانسانية شأن الطعام والشراب – نعم احلام يقضة عشناها لن نجد لها اليوم مصباً او مكانة – شواخص غادرتنا في طي النسيان .. رغم كل ذلك استعادت ومضات ذاكرتي تلك الصور الجميلة احتساباً علمياً وعملياً لوجودية خلايا تحفزية وراء هذا الاستشراف الذاتي لها في ظل بحيوية التشويق والحلم والترحم . تلك الحالات الانسانية الرحبة بمواقفها وقيمها الاجتماعية من جيرة وصداقة وتعارف ... وما غادرتنا ... شخوص راحلة لمثواها الاخير عبر حب وتوادد رابط ازداد عمقاً وسعة كل يوم ...

-              من هنا تبصرت بُعد السنيين ملامح تلك المرآة الوقورة السمراء التقية بأدبها وخلقها الجم المتألقة في كسوتها وحشمتها وشكلها العمارتلي المعهودة بأصالتها المعدانية الجنوبية الكريمة بائعة القيمر والحليب (ام جاسم) وهي كل صباح كل يوم في محلتنا بائعة كريمة يحبها الجميع منذ سنوات كثار اعتدتها لصباح كل يوم بالتحية والسؤال عن صحتها واهلها والتبضع منها حتى اذا غابت يوماً تكون في شغل شاغل عنها عسى ان يكون هنالك خيراً وهي بنت منطقة الفضيلية البعيدة عنا المشهورة بتجارة منتجاتها من الالبان من الحليب والجبن والقيمر والروبة والرثية والخاثر ففي احدى المرات وجدتها تبكي كون احد الشذاذ المارقين قد سرق كيس فلوسها ولم تستطع اللحاق به مما حفزني هذا الخبر ومعي احد الاخوات بالمتابعة والتعرف على السارق والامساك به وتوبيخه وارجاع المبلغ المسروق لهذه المسكينة التي فرحت بجلب هذا الشخص للاعتذار منها . وبقت هذه الحادثة عزيزة في ذاكرتها اتجاهي ... وحينما حلت ظروف التهجير القاهرة في الوطن هددت هذه المسكينة بمنعها من المجيء للمنطقة وفعلا من شدة خوفها رضخت لهذا الاجراء المشؤوم ..

-              وطالت سنوات الانقطاع وحالات الاشتياق لها تزداد ودا ومعرفة لمصيرها من لدن محبيها لكن دون فائدة تذكر بسبب جهلنا جميعا محل سكناها ...

-              وحينما كنت اتبضع صبيحة احد الايام في سوق الاثوريين في الدورة  طرق سمعي مناداة اسمي فألتفت لمعرفة مصدر الصوت فأذا انا اواجه باعة القيمر (ام جاسم) فلم اتمالك نفسي الا ان اسرعت نحوها وامسكت رأسها وقبلته وهي تصرخ بسليقتها الريفية البريئة الحنونة ...

-              خوية صدك جذب اشوفك ... يمه طيب انت َوبخير وتأخذنا نوبات الاشتياق العائلي وهي تستذكر اهل المحلة  فرداً فرداً ثم استدركت قائلة ...

-              خوية انتم ما تدرون ... خلولي ظرف وبيه جيله (رصاصة) وهددوني وشمروه عليَ ان ارحل وما اعود ... واضافت ...

-              تدري انة فقيرة وما عندي اذية على احد واجفة الشر وتتواتر في سرديتها وانا متهلوس برؤيتها اهي حقاً حية ترزق فقاطعتها ... اليوم انتِ ظيفتي ستفرح بكِ زوجتي واولادي الجميع يحبونكِ ويدعون لكِ بالعمر والصحة والعافية الا انها اعتذرت كونها بأنتظار اختها باعة القيمر في منطقة المكيانيك للعودة معاً الى الفضيلية ...

-              وطلبت منها وتشجيعا لها العودة الى منطقتنا في حي الاعلام لممارسة بيع الحليب والقيمر في ظل اجواء امينة جيدة  ...

-              واثناء حديثنا اقبلت اختها وكان وداعاً مؤثراً وسلاماً متبادلاً للاهل والمعارف والدعاء للجميع بالخير والسلام وانا في تيه من امري ماذا فعلت هذه المرآة الكادحة الفاضلة العريقة بأصلها وحبها للاخرين حتى تطرد وتشدد وتهجر من مكان رزقها....

-              ثم رحت اقلب نظري لتلك المحلات والبيوتات المقفرة المقفلة الفارغة التي تركها اهلها وهاجروا الى خارج الوطن الجريح بسبب التهديدات والجرائم الطائفية التي حلت بهم من لدن أناس لم يعرفوا سوى النهب والسلب والتهجير والتخويف ..

-              ترى اين حلاقي عزيز وعاشور وطبيبة الاسنان لميعة ميخائيل وبائع الكبة المشهور صبري واصدقائي الاساتذة نبيل ونشأت وكوركيس وكمال ولورنس ورياض شاب والدكتور رافد حداد والدكتور عالم الاثار دوني جورج فائق منصور واخرين عشقنا عشرتهم وصداقتهم وجيرتهم في هذه المدينة الوديعة زنبقة بغداد الجنوبية "الدورة " واحيائها الخضراء .. المهديات والاثوريين والخورنق والمصافي وابو دشير والاسكان والمعلمين والجمعيات والشرطة والصحة وغيرها حيث تعانقت دور عبادتها من اديرة وكنائس ومساجد بعبادة الخالق العظيم من مسلمين ومسيحيين وصابئة .

-              كانت مأسوية تلك الصورة الدامية اقدمت مئات العوائل اثناء التهجير على بيع ممتلكاتها واثاثها بسعر بخس من اجل الهروب الى الخارج حماية لانفسهم وابنائهم بعيداً عن كل القيم السماوية والسماحة الانسانية وان هذا الوطن العراق موطن الجميع وان الله تعالى خلق الدنيا شعوباً وقبائل ليتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم وتجيد حديث رسولنا محمد الكريم () .

(انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق)

-              نعم تواردت في خاطري تلك الذكريات والصداقة مع مجاميع الاسماء التي اعتز بها من ابناء الطائفة المسيحية وهي اصحاب الكرم والضيافة وكبة صبري ما احلاها طعماً ونظافة عبر سلته التي كان يحملها في الاسواق نعم استحضرت ام جاسم ومآثرها الاصلية في البيع ومحبة الفقراء الذين كانت تطعمهم مجاناً اليوم هي بعيدة عن احبابها وانا اردد ما نشده فناننا الغالي علي العيساوي ..

دوارة دوارة يادنيا دوارة

غادر حبيبي ومشى

وانكطعت اخباره

آه آه يا زماني

-              حينما امر اليوم ديارها صباحاً استعيد رسمها صورة وصوتاً وايمائة مرحبة اقترب منها لا اجد لها اثراً سوى رذاذ التراب وازيز الرياح ولكون الزمن ودمعة في عيني ودعائي الهي .. الهي ما ارحمك في قدرتك .


مشاهدات 52
الكاتب قاسم المعمار
أضيف 2025/01/23 - 12:17 AM
آخر تحديث 2025/01/23 - 4:13 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 97 الشهر 10536 الكلي 10290501
الوقت الآن
الخميس 2025/1/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير