إنصافاً لرموز الرواية وليس دفاعاً عن الحاج مهاوي
حسن العاني
من بين أعمالي الادبية المطبوعة ( 3 روايات و 7 مجاميع قصصية ) ، لم يحظَ واحد منها بالاهتمام النقدي مثلما حظيت رواية ( عيادة الحاج مهاوي) الصادرة عام 2021 عن ( منظمة نخيل عراقي الثقافية ) ، وانتقل هذا الاهتمام النقدي الى عموم القراء من خارج الوسط الادبي ، والغريب ان قراء ( العيادة) سواء من الوسط الادبي ام من خارجه ، استوقفتهم موضوعة (الجنس) او ما أسميه ( علاقات الفراش ) مع فارق في تفهم هذه الموضوعة ، فبينما نظر (النقاد ) الى علاقات الفراش من زوايا عديدة ، وتباينت آراؤهم حول الدلالات الجنسية وتفسيرها في الرواية – وآراؤهم جميعاً موضع احترام وتقدير – فأن الامر لم يكن كذلك عند القسم الاعظم من ( القراء) ، حيث تعاملوا مع الرواية على انها عمل ( اباحي ) ، بغض النظر عن كونها عملاً أدبياً توفر على معطيات النجاح الفنية على حد قولهم !
قبل الخوض في التفاصيل ، أشير الى قضية هي الاهم على المستوى الشخصي ، متمثلة بأن (الجنس) في اعمالي الادبية لم يكن ( غاية) أبداً ، إنه (وسيلة) لبلوغ هدف ، وان هذا النوع من الكتابة لم ينطلق من رواية الحاج مهاوي ، فقبلها كان هناك العديد من القصص ، وابرزها قصة ( ليلة الاحتفاء بالحرية) التي هي عنوان لمجموعة قصصية صدرت عام 2015 ، ففي ليلة الاحتفاء بالحرية ،نتعرف على البطل الذي يفشل دائماً في بلوغ ( الذروة) الجنسية لهذا السبب او ذاك ( اشارة رمزية عبر الجنس الى محاولات اغتيال رئيس النظام السابق ، ففي كل مرة تفشل محاولة الاغتيال لهذا السبب او ذاك ) ، ويوم نجح بطل القصة في تحقيق مهمة الفراش وبلوغ الذروة ، كان نجاحه مقترناً بأعلى درجات الفوضى ( اشارة رمزية عبر وسيلة الجنس الى النجاح في قتل او اغتيال رئيس النظام السابق وما رافقه من فوضى وحواسم ) ..
على وفق هذه الرمزية الجنسية ، كانت احداث ( العيادة ) تجري بالسياق نفسه .. الجنس وسيلة للوصول الى هدف او اهداف .. ربما لفت نظري ان النقاد الذين حصلت على كتاباتهم ابتداء بالدراسة النقدية المطولة للاديب العراقي ليث الصندوق – المنشورة في مجلة الثقافة الجديدة - ، مروراً بالزميلات والزملاء ( رنا صباح خليل / باسم عبد الحميد حمودي / مسلم عبدالامير / د. فائزة عبد الواحد / عبد الحسن الغرابي / عادل سعد / محمود خيون) ، اقول لفت نظري ذلك التركيز على الجنس في الغالب ، على حساب الكثير من انشغالات الرواية ، وقد سيطر ذلك التركيز على اغلب العناوين المباشرة احياناً ، على غرار هذا العنوان الفنطازي ( فرويد في عيادة الحاج مهاوي ) .. وليس في كل ما مرّ ذكره ملاحظة او مأخذ بل العكس ، فقد افادتني العديد من الاجتهادات والايضاحات التي أغنتْ ثقافتي المتواضعة في قضية الجنس ، لأن ما اردته للرواية هو ان تكون ابعد شيء عن الانغماس في علاقات الفراش او رسم مشاهد اباحية ...
الرواية محاولة جادة لرسم صورة واقعية للقرية العراقية بعاداتها وتقاليدها و .. واعرافها التي تعني عندهم سلطة تعلو على سلطة القانون ، وتقرب من سلطة الرب وطاعته ، وقد أوليتُ عناية كبيرة ، لمستويات (الوعي) النسوي وانعكاساته على الجنس او علاقات الفراش ، ومن هنا (اكتشفت) 3 مستويات ، الاول كانت بطلته (زكيه) عنوان الامية الدراسية والحضارية ، ارملة دون الخامسة والعشرين من العمر ، بعد وفاة زوجها في بداية زواجها ، ولذلك تغلبت حاجة الجسد على الوعي والاعرف معاً ..المستوى الثاني عبرتْ عنه (فضيله) – زوج الحاج مهاوي - إمرأة تجاوزت الاربعين ... بلغت المرحلة الاعدادية دراسياً ، لها محاولات في كتابة الشعر .. انتقلت بحكم سلطة (العائلة) من المدينة الى القرية لتكون زوجاً للحاج مهاوي الذي يكبرها بأربعين سنة ، وفي ذمته الاكتفاء الشرعي من الزوجات .. كان وعيها – على تواضعه – (يُفترض) ان يكون حاضراً يجنبها الانزلاق ، ولكن نزوات الحسد العنيفة هي التي انتصرت في الصراع ، ومع ذلك نتلمس دوراً واضحاً لوعيها – وان كان متأخراً – فبعد كل علاقة فراش غير شرعية كانت تعاني من وجع ضمير قاس ومن ندم شديد على ماتقوم به ، وعادة ما تأخذها نوبة بكاء حادة في حين كانت ( زكيه) مهووسة بالفراش ولايقع في حسابات ضميرها او وعيها شيء ينتمي الى الردع او الندم او وجع الضمير ..
(وضحه) تمثل المستوى الثالث للوعي .. وهي شقيقة شيخ القرية ( جاسم ) ، سيدة جميلة ، ابنة مدينة ، أكملتْ دراستها الجامعية ، وتولت مهنة التدريس قبل حاجة شقيقها الى وجودها معه في القرية ...(وضحه) التي قتل زوجها قبل اكتمال شهر العسل ، كانت تتحلى بثقافة المدينة ، وانعكاسها على سلوكها جنبها الانزلاق في علاقات يرفضها المجتمع والشرع ، وبذلك تغلب الوعي والعرف على مكابدات الجسد .. وبحكم هذه التكوينة جُنّ البطل بشخصيتها التي جمعت بين الجمال والثقافة وبين عفتها ، حيث وجد نفسه امام رؤية جديدة تماماً للمرأة ، ومن هنا انجب الوعي صورة رومانسية اخلاقية للجنس ، ولم يكن غريباً ان تنتهي حياتهما بزواج يمثل حلمهما المشترك من دون ان يقف فارق العمر حائلاً ..ثمة اخيراً ما اود الاشارة اليه ، فنحن لانتعرف على اسم البطل الا في السطر الاخير من الرواية ... انه آدم ... وآدم في الموروث الديني ابو البشرية الذي كان تصرفه وراء خروجه وخروج ذريته من الجنة – حتى لو كان مفهوم الجنة يراد به البستان – في حين لم تتجاوز اخطاء وخطايا آدم بطل الرواية حدود بيئتها الضيقة جداً ، ولم تشمل من ( البشرية) سوى حالتين او ثلاث ، هذا غير كونها ظلت محفوفة بأعلى درجات الكتمان والسرية ولم تتحول الى ظاهرة بشرية ..هنا بيت القصيد في استعمال اسم (آدم) ، ففي الوقت الذي لم نلمس فيه من سيدنا آدم مايشير الى تكفيره عن خطيئته او الاعتذار عنها ، تشير اخطاء ادم بطل الرواية الى سلسلة من المواقف الانسانية النبيلة ... فقد نذر وقته وحياته لخدمة اهل القرية ليلاً ونهاراً ، يستقبل مرضاهم في عيادته البسيطة ، ويزور كبار السن من المرضى في بيوتهم ، ولايعنيه وقت (الاستقبال او الزيارة ) في منتصف الليل او بعد المنتصف برغم مافي ذلك من مخاطر ، آدم الحاج مهاوي علّم القرويين على الكثير من العادات الصحية في الاكل والنظافة وتعقيم المياه وتصفيتها ، ولعل اعظم خدمة قدمها لهم تمثلت في افتتاح ( دورات صحية) للشباب من الجنسين لتعليمهم ( زرق الابر) وبعض الاسعافات الاولية البسيطة ، ولعل ( زرق الابر) كان ( مشكلة المشكلات ) بالنسبة لسكان القرية ، وخاصة العنصر النسوي .
يوم قتل آدم الرواية تسابق اهل القرية لبناء دار عبادة يحمل اسمه مسبوقاً بمفردة (الشهيد) ، وتحول قبره الى (مزار) شبيه بمزارات الصالحين.. ربما تكون مفارقة ان يجتمع ( مزار الرجل الصالح) مع حياته الجنسية، ولكنها مفارقة مقبولة جداً حاولت ان تقول لنا بأن مستويات الوعي والجنس ليست حكراً على المرأة ،ان نصيبها عند الرجال يكافئ ويوازي نصيبها عند النساء ، فآدم الرواية ، عند وصوله القرية كان شاباً عديم الخبرة اكثر من كونه قليل الخبرة والتجربة ، بمعنى ان وعيه المعرفي كان وراء اخطائه المبكرة ،غير انه لم يعد كذلك بعد بضع سنوات من النضج العقلي والعاطفي ، ومن الوعي الحياتي الذي اسهم في بلورته ظهور قمة من قمم الوعي متمثلاً في (وضحه) ، بخلاف وعي (فضيله) الذي لم يأخذ بعده الحضاري والانساني الكامل .. ولذلك وقفتْ وراء قتله ليس بدافع الغيرة النسوية وحدها ، بل قبل ذلك لتشوش الوعي عندها وارتباكه .. وعدم نضجه لغياب (المؤثر) الآخر او الخارجي ، ولأن بيئتها كانت الصورة الاسوأ لتدني الوعي .