حسن النواب
يعشقُ المطرَ؛ وحينَ يراهُ ينهمرُ، يتركُ المنزلَ للتجوالِ تحتَ شفيفِ قطراتهِ التي تنزلقُ على وجههِ بعذوبةٍ وغبطةٍ تغمرُ قلبه. إذْ يعودُ شغفهُ بالمطرِ مُذْ كان تلميذاً في الأول ابتدائي. كان التلامذةُ يلوذونَ تحت سقفِ المدرسةِ عندما تزخُّ السماء؛ وهُمْ يبصرونهُ يرقصُ وحيداً مثل مخبولٍ في الساحة العارية مبتهجاً برذاذ الوَدَقْ. وفي عمر المراهقة كان يجلس طويلاً في البراري يراقب الغيوم الدكناء عسى أنْ تهديه مزنةً تنعشُ روحه الظمأى. وفي حياتهِ الجامعية كان يمشي تحت المطر أمام عيون الطلبة هاتفاً: ليس سواك أيها الغيث من يطهّر الأرض من ذنوبها. وفي الحرب التي دخلها مرغماً تحتفظ ذاكرته بأكثر من حكاية عن المطر. فقد احتل الإيرانيون جزيرة الفاو، كان ذلك في منتصف شهر شباط وقد أصابت نيرانهم عشرات الناقلات المدرَّعة، كانت ألسنة اللهب تتصاعدُ منها بضراوةٍ ومصيرها لتكون ركاماً من الفولاذ المنصهر مسألة وقتٍ ليس إلاّ، وإذا بمطرٍ ثقيلٍ كالقارْ يهطلُ مدراراً ليخمد النيران الهائجة في الناقلات المشتعلة؛ لم ينقذ ذلك المطر الكثيف الناقلات من الدمار فحسب؛ بلْ أنجى عشرات الجنود الذين كانوا في داخلها من الموت وقدْ ضاقتْ بهم السبل للخروج منها في تلك اللحظات الحرجة؛ برحمةٍ سماويةٍ لم يجدْ تفسيراً لها حتى الآن. وفي معركة شرق البصرة تقهقرتْ فرقته المدرَّعة أمام هجوم الإيرانيين العنيف واحترقت دبابته، لمْ يكنْ أمامه سوى الفرار بجلدهِ ليعدو لاهثاً نحو مدينة البصرة، كان الطريق طويلاً حتى يصل إلى بر الأمان، وقد نال منهُ الإرهاق والظمأ حتى هجس أنَّ حتفه اقترب من شدَّة العطش، كان يحلم بشربةِ ماءٍ تسعفُ روحه من الموت ظمآناً في ذلك الليل البهيم. وقبل أنْ يُغمى عليه هطل المطر بلا هوادةٍ، ابتلَّت ملابسه وارتوتْ عروقه بالغيث الذي نزل من السماء وامتزج دمعه مع المطر وهو يشكر الله على هبتهِ الثمينة التي جعلته على قيد الحياة. وعن ذكرياتهِ مع المطر حين كانت وحدته العسكرية في قاطع الشيب، وقيظُ شهر آب الذي يميعُ المسمار في الباب كما يقولون في المثل الدارج؛ حرٌّ لا يطاق دعا الجنود للغطس في براميل الماء هرباً من الصَهَد ورمضاء الأرض. وإذا بالسماء تغيثهم بوابل المطر؛ لم يصدقوا أنَّ الغيث يهطلُ بسخاءٍ على رؤوسهم في شهر آب وفي ذلك الهجير، استمر زخُّ المطر ما يربو على ساعتين ليترك أمام أنظارهم بِركةِ ماءٍ صغيرةٍ تشكَّلتْ من جُودهِ؛ فيما راحتْ طيور النوارس تعومُ في موجها المضيء إثر انعكاس خيوط شمس آب عليها؛ بمشهدٍ فردوسيٍّ خلَّابٍ أذهل الجميع. كان انهمار المطر بهذه الكثافة في ذلك القيظ قدْ أثار خوالجه لينزوي في الملجأ ويكتبُ قصيدة عشتار تبتكرُ المطر التي يقول في مقطعٍ منها: «وأغادرُ دكَّةِ باب الدار ومن غسقِ الدمع أمرُّ إلى أصقاع مراعي النار، وحيداً منطفئ القلب، أرتّقُ جرحاً غبَّ رحيلي أينعَ حزناً بأواني الروحِ، وأقدحُ أحجار الذكرى عن عبثٍ بزنادِ الرؤيا لا تبرقُ؛ أمضي والمطرُ الصيفي لآلئَ نورٍ تنثالُ على أرصفةِ العمر، فتخدشُني كأناملها؛ وأنا منذهلُ أبحث عن رائحة الأنثى، كانت عالقةً بدمي بين شفاهي؛ فمتى ذوَّبها المطر الرقراق؟ هذا مطرٌ قدسيٌّ، هذا مطرٌ غزليٌّ، هذا مطرٌ مَلَكيٌّ أهدتهُ عشتار لنا ولعاشقها تُموز المتأجج وجداً في قاع الأرض».
عاشق المطر هذا يضعُ يده على مهجتهِ بوجلٍ الآن؛ فالمطر الذي ينذرُ بالهطول على بلادهِ سيحيلُ بيوت الطين إلى خرابٍ، ولذا يتضرَّعُ من قارةٍ بعيدةٍ: أيها المطر كنْ حنوناً على الفقراء؛ بينما شاعرنا بدر شاكر السيِّاب مازال يردد في شعاب الوطن مطر.. مطر.. مطر.