مشاهدات من إسطنبول (4)
البازار الكبير معلم آثاري بارز شيد بدقة جمالية
رعد أبو كلل الطائي
يختزل البازار الكبير في إسطنبول أحد اكبر الأسواق المغطاة في العالم بوصفه معلماً آثارياً عمره قرون ويجسد صفحات من مآثر الحقبة العثمانية والبازار الكبير أو السوق المسقوف كذلك يطلق عليه جراند بازار
يقع في ميدان بايزيد وضمن منطقة الفاتح وداخل اسوار القسطنطينية في إسطنبول ويمتد من الغرب إلى الشرق تقريباً بين جامع بايزيد الثاني وجامع نور ويمكن الوصول إليه بسهولة من منطقة سلطان احمد وسركجي بواسطة ترام إسطنبول وهو ما يزال متفرداً بكونه واحداً من اقدم مراكز التجارة العالمية ويشتمل على 61 شارعاً مغطى يضم أكثر من أربعة آلاف متجر على مساحة اجمالية قدرها ثلاثون الف و700 متر مربع تجذب ما بين 250 الف إلى 400 الف زائر يومياً وفي عام 2014 تم ادراجه في المرتبة الأولى بين مناطق الجذب السياحي الأكثر زيارة في العالم.
وغالباً ما ينظر إلى البازار الكبير في إسطنبول على إنه أحد مراكز التسوق الأولى في العالم وهو سوق متكامل فيه كل شئ والممتع إنك تستطيع المساومة مع البائعة فعلاً إنه سوق رائع والسوق فرصة لتسوق الهدايا التذكارية للأهل
والأصدقاء من المشغولات اليدوية والمنتجات التقليدية التي تشتهر بها تركيا وعندما تتجول في شوارع السوق المسقوف تشعر حقيقياً بعمق الحضارة العثمانية وأسواقها ومتاجرها الممتازة والمتوافقة مع جودة وعمق المكان .
بناء البازار
بدأ بناء نواة البازار الكبير (جراند) خلال عام 1455م بعد فترة وجيزة من فتح القسطنطينية وقد كان الأمر جزء من مبادرة
أوسع لتحفيز الأزهار الاقتصادي في إسطنبول إذ أقام السلطان محمد الفاتح صرحاً مكرساً لتجارة المنتوجات المختلفة والمجوهرات بالقرب من قصره في القسطنطينية كان اسمه (سرير الأحجار الكريمة) وكان يعرف بأسم (بيرستان سيدود) اي سرير جديد بالتركية العثمانية وتعني بازار بائعي الملابس ويقع المبنى على منحدر التل الثالث في إسطنبول بين ميدان قسطنطين القديمة وبالقرب من قصر السلطان الأول القصر القديم (اسكي سراي) وكان هو الآخر قيد الإنشاء في تلك السنوات نفسها وليس بعيداً عن حي الجنازين في المدينة في العصر البيزنطي فيما تم الانتهاء من تشييد المبنى عام 1461م وفي بداية القرن السابع عشر كان البازار قد استكمل بالفعل شكله النهائي وأدى الأمتداد الهائل للدولة العثمانية في ثلاث قارات والسيطرة الكاملة على اتصالات الطرق بين اسيا واوربا إلى جعل البازار والمقطعات المحيطة به أو الخانات مركزاً لتجارة البحر المتوسط وفقاً للعديد من المسافرين الأوربيين ومنذ ذلك الوقت وحتى النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي كان الجراند المسقف لا مثيل له في أوربا فيما يتعلق بوفرة وتنوع وجودة البضائع المعروضة للبيع.
وكان البازار مخطط مربع مع طريقين رئيسين متعامدين يتقاطعان في الوسط وطريق ثالث يمتد على طول المحيط الخارجي.
وكان في البازار 67 طريقاً كل منها يحمل أسم بائعي سلعة معينة وعدة ساحات تستخدم للصلاة اليومية وخمسة مساجد وسبع نافورات و18 بوابة تفتح كل يوم من الصباح وتغلق في المساء ومن هنا يأتي الأسم الحديث بالسوق المغلق .
وفي عام 1638م قدم المسافر التركي أوليا جلبي أهم وصف
تأريخي للبازار وعاداته قائلاً :
بلغ عدد المحلات التجارية للسوق 3000 محلاً و300 أخرى تقع في الخانات المحيطة وبيوت متنقلة كبيرة تتألف من طابقين أو ثلاثة طوابق حول فناء داخلي ذي اروقة إذ يمكن تخزين البضائع وأيواء التجار فيها وفي تلك الفترة كان عُشر المحلات التجارية في المدينة مركزة في السوق الكبير وحوله ولم يكن السوق حينها مغطى.
كوارث وزلازل
وحلت بالبازار كوارث وحرائق وزلازل متكررة ودمرت السوق خلال سنوات متعددة في حين تم بناء عدة اجزاء من البازار بين عامي 1730م و 1731م وبسبب القانون الجديد لمكافحة الحرائق والصادر في عام 1698م تم تغطية العديد من اجزاء البازار الواقعة بين البردستين بأقبية .
وعلى وفق مسح أُجريَ عام 1890م كان السوق يضم ٤٣٩٩ متجراً وسوقي بيدستان و٢١٩٥ غرفة وحمام عام واحد ومسجد واحد وعشر مدارس دينية وتسعة عشر نافورة وضريح واحد ومساحته كانت بواقع ثلاثين الف متر مربع ومحمي بأحد عشر باباً رئيسياً من بينها باب با يزيد وباب محمود باشا
وباب اورجو وباب السّوق وباب المنجدين ويعمل فيه حوالي ٢٦ ألف شخصٍ وبعد الزلزال القوي الذي هز إسطنبول عام ١٨٩٤م أشرف حينها وزير الأشغال التركي محمود باشا على إصلاح البازار المتضرر بينما خضع البازار لأخر عملية ترميم في عام ١٩٨٠م وفيها تمت إزالة الملصقات الإعلانية حول السوق ٠
ماذا يباع في السوق
في الزمن القديم كان السوق المسقوف يضم العديد من الحرف
اليدوية وكان أصحاب كل حرفة يجتمعون سويةً في مكان ما من السوق فهناك شوارع تحتضن لبيع المصنوعات الجلدية والأثاث وأخرى تصنع الحلوى التركية التقليدية اللذيذة مثل حلوى الحلقوم التركي وعلى هذا المنوال سُمّيَ كل زقاق بأسم الحرفة التي يقطن اصحابها فيه فهناك شارع الذهب وشارع النحاس وآخر للنجارين ومثله للحدادين ٠
ويوفر السوق انواعاً خاصةً ومميزةً من
المشتريات قلما تجدها في مكان آخر كما يشتمل البازار على الأواني المنزلية المصنوعة يدوياً والسجاد المنزلي وسجاد الزينة والأدوات الفخارية والنحاسية والحلويات
التركية التقليدية كافة والمكسرات بأنواعها والتحف القديمة والاقمشة والذهب والفضة والتوابل كافة ٠
وتباع في البازار الهدايا التذكارية والمنحوتات والنصب التذكارية التركية والمنسوجات اليدوية والمطرزات
والسجاد .
جولة استقصائية
لكثرة الحديث عن هذه السوق بين السائحين والزوار زادني فضولاً لمشاهدته ومعاينته لمعرفة المزيد عن تفاصيله ولكون مكان
اقامتي في منطقة با يزيد فهو إذاً قريب جداً بالنسبة لي خرجت مبكراً سيراً على الأقدام وبعد عشر دقائق كنت قد وصلت باب البازار الكبير وعند دخولي السوق شعرت اني في متاهة لا تنتهي من الطرق والأزقة العتيقة التراثية لا أول لها ولا آخر لذلك ينبغي الاسترشاد بدليل سياحي أو خريطة سياحية دقيقة تدلك على مداخل السوق ومخارجه ويمتد البازار على مساحات واسعة ويوصف بالمسقوف لأنه كما شاهدناه مغطى على شكل أقواس إسلامية شيدت على ما يبدو بدقة جمالية غاية في الروعة لتظهر كتحفة معمارية وفنية تلفت الإنتباه وتثير إعجاب الناظرين بهندستيها الفريدة والوانها الجميلة البديعة ويتميز البازار بديكوراته والفوانيس والثريات الجميلة التي تتدلى من سقفه ٠
والشئ الملفت للنظر تلك الأفواج السياحية من السياح والزائرين وهي
تتقاطر في السوق مشكلةً ازدحاماً وتدافعاً كبيراً فيها وعلى الرغم من وجود الشبكة الهائلة من الأسواق الداخلية والشوارع المتعددة على جانبي الأيمن والأيسر من السوق ٠
وبعد دخولك الجراند المسقف بمسافة قصيرة فلن تغادره قبل أن يُسحرُكَ عبق القهوة التركية ويترك أثره في نفسك إذ تتطاير القهوة المطحونة وتتغلغل بين الأزقة القديمة مخترقة حشود المارة طاغية على ما سواها من روائح التوابل المنبعثة هي الأخرى من دكاكين العطارين كما رأينا عدة دكاكين صغيرة منتشرة في البازار تلبي متطلبات متذوقي وعشاق القهوة وما يتبعها من صناعات إذ تعرض مستلزمات القهوة من أكواب وأباريق وأوانٍ نحاسية مزركشة وغلايات يطلق عليها الأتراك (الجزوة) ويذكر ان الأتراك عرفوا القهوة في عام ١٥٤٣م على يد الوالي العثماني على اليمن الذي اعتاد على شربها هناك وأتى بها إلى إسطنبول عند انتهاء
ولايته إذ ذاع صيتها في تركيا وانتقلت منها إلى أوربا ٠
بَقِيَ ان نقول :
هناك بين أزقة السوق المسقوف العتيق أسرار تجتذب يومياً عشرات الألاف من الزائرين والسياح من شتى أنحاء الأرض لكونها حقيقة قلب ودماغ وروح إسطنبول والبازار مدينة داخل مدينة وهو أحد الأماكن الأكثر زيارة في العالم ولا عجب في ذلك حين تعلم أن السوق يدخل إليه بمعدل ٩١ مليون و٢٥٠ ألف زائر في العام الواحد وبواقع ٤٠٠ ألف زائر يومياً
وينفرد البازار هو الأخر بموقعه المتميز في منطقة با يزيد قلب إسطنبول وعلى مسافة قريبة من آيا صوفيا والجامع الأزرق وإلى جانب عدد من المعالم السياحية الشهيرة في إسطنبول وفيه ستختبر مُتعة فريدة في التسوق لن تجدها في مولات إسطنبول الكبرى ٠
ويعرض السوق أصنافاً وأغراضاً متفرقة تلبي حاجات السياح التي يرغبون بأقتنائها وإن كثيراً من المحلات
التجارية في البازار تحولت إلى ما يشبه بالمتاحف الآثارية الصغيرة ووسعت بعض المحلات التجارية الموجودة في السوق نشاطها وأصبح لديها علاقات تجارية مع شركات إنتاج عالمية إذ تقوم ببيع الألبسة الجلدية التأريخية والتراثية الخاصة وذلك لغرض استخدامها في إنتاج الأفلام السينمائية الوثائقية والتأريخية الأمر الذي ينطبق كذلك على بعض المسلسلات التأريخية التركية التي تقوم بأقتناء اغلب ما تحتاجه من البازار.