الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬25‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬25‭)‬

حسن النواب

 

أحكمَ‭ ‬التجمع‭ ‬الثقافي‭ ‬قبضته‭ ‬على‭ ‬روافد‭ ‬الثقافة‭ ‬برمتها‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬والصحافة؛‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬إعلامية‭ ‬أخرى‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬شأنها‭ ‬ومنزلتها‭ ‬الرسمية‭ ‬أن‭ ‬تجرؤ‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬أي‭ ‬نشاط‭ ‬ثقافي‭ ‬بدون‭ ‬موافقة‭ ‬الأولمبية،‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬غامرت‭ ‬بذلك‭ ‬سيجد‭ ‬أفرادها‭ ‬مكانهم‭ ‬في‭ ‬معتقل‭ ‬الرضوانية‭ ‬وليس‭ ‬بعيداً‭ ‬سيحشون‭ ‬فم‭ ‬أصحابها‭ ‬بالرصاص‭. ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بدأت‭ ‬أنشطة‭ ‬هذا‭ ‬التجمع‭ ‬المدعومة‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬من‭ ‬اللجنة‭ ‬الأولمبية‭ ‬تظهر‭ ‬للعيان،‭ ‬وكان‭ ‬بوسعك‭ ‬أنْ‭ ‬ترى‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬زحف‭ ‬حشود‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين‭ ‬والصحفيين‭ ‬على‭ ‬مبنى‭ ‬اللجنة‭ ‬الأولمبية‭ ‬والوقوف‭ ‬بطابور‭ ‬طويل‭ ‬لاستلام‭ ‬مكافآتهم‭ ‬الوضيعة‭ ‬من‭ ‬هناك؛‭ ‬وكان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الذين‭ ‬يبكّرونَ‭ ‬صباحاً‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الدنانير‭ ‬المعدودة‭ ‬حتى‭ ‬يتجنَّب‭ ‬الوقوف‭ ‬بالطابور‭ ‬المُذل‭. ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬شهرين‭ ‬انتقل‭ ‬توزيع‭ ‬تلك‭ ‬المكافآت‭ ‬إلى‭ ‬بناية‭ ‬السينما‭ ‬والمسرح‭ ‬التي‭ ‬أصبحتْ‭ ‬مقراً‭ ‬للتجمع‭ ‬الثقافي،‭ ‬كانت‭ ‬المفارقة‭ ‬المحزنة‭ ‬أنَّ‭ ‬معظم‭ ‬الأدباء‭ ‬يستلمون‭ ‬تلك‭ ‬المكافآت‭ ‬باستثناء‭ ‬جان‭ ‬دموُّ‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يدرج‭ ‬اسمه‭ ‬مع‭ ‬المشمولين‭ ‬بتلك‭ ‬المكرمة،‭ ‬وهو‭ ‬الأكثر‭ ‬حاجة‭ ‬لها‭ ‬بسبب‭ ‬وضعه‭ ‬البائس؛‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متذمراً‭ ‬أو‭ ‬محتجَّاً‭ ‬على‭ ‬تهميشه‭ ‬ونسيانه‭ ‬وحرمانه‭ ‬عن‭ ‬قصد‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المنحة؛‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬أترابه‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬الصعاليك‭ ‬في‭ ‬حانة‭ ‬روافد‭ ‬دجلة‭ ‬حين‭ ‬يستلمون‭ ‬تلك‭ ‬الدنانير‭ ‬الأولمبية‭ ‬والتي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتبخر‭ ‬خلال‭ ‬جلسة‭ ‬واحدة‭. ‬ذات‭ ‬مساء‭ ‬استدعى‭ ‬نصر‭ ‬الله‭ ‬الداودي‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬جريدة‭ ‬العراق‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬إلى‭ ‬مكتبه؛‭ ‬فتح‭ ‬فمه‭ ‬كمن‭ ‬يطلق‭ ‬رصاصة‭ ‬مباغتة‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭: ‬

‭- ‬سيقودكَ‭ ‬سكرك‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬السجن‭ ‬أخيراً‭.‬

‭- ‬خير‭ ‬أستاذ؟

سألهُ‭ ‬بلهجة‭ ‬صارمة‭:‬

‭- ‬وهل‭ ‬تتوقَّع‭ ‬خيراً‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬لسانك‭ ‬السليط؟

صعق‭ ‬دم‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بشحنات‭ ‬كهربائية‭ ‬مجهولة‭ ‬وتلعثم‭ ‬لسانه؛‭ ‬قال‭ ‬مبرِّراً‭: ‬

‭- ‬أستاذ‭ ‬منذ‭ ‬شهر‭ ‬لا‭ ‬أشرب‭ ‬إلاَّ‭ ‬القليل‭.‬

رفع‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬ورقتين‭ ‬محشوتين‭ ‬بسطور‭ ‬سود‭ ‬ولوَّح‭ ‬بهما‭ ‬في‭ ‬الهواء؛‭ ‬طرح‭ ‬سؤاله‭ ‬حانقاً‭:‬

‭- ‬وهذا‭ ‬التقرير‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬عنك؛‭ ‬هل‭ ‬ستنكر‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬فيه؟

كاد‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬أنْ‭ ‬ينكفأ‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬من‭ ‬الخوف؛‭ ‬لكنه‭ ‬تماسك‭ ‬قليلاً‭ ‬ليلوذ‭ ‬صامتاً؛‭ ‬عاد‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬موجهاً‭ ‬كلامه‭ ‬بنبرة‭ ‬ساخطة‭: ‬

‭- ‬حضرتك‭ ‬تسخر‭ ‬من‭ ‬مكرمة‭ ‬السيد‭ ‬الرئيس‭ ‬التي‭ ‬تستلمها‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬من‭ ‬اللجنة‭ ‬الأولمبية‭.‬

‭- ‬مستحيل‭ ‬أستاذ‭ ‬أسخر‭ ‬من‭ ‬مكافأة‭ ‬تسد‭ ‬رمقي‭.‬

‭- ‬وتقول‭ ‬لأصدقائك‭ ‬من‭ ‬الصعاليك‭ ‬بحانة‭ ‬روافد‭ ‬دجلة‭ ‬إنَّ‭ ‬المكرمة‭ ‬تكاد‭ ‬لا‭ ‬تكفي‭ ‬لشراء‭ ‬عشر‭ ‬علب‭ ‬من‭ ‬السجائر؛‭ ‬ألم‭ ‬تقل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام؟

لم‭ ‬يكن‭ ‬أمام‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬سوى‭ ‬نكران‭ ‬مام‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬بذلك‭ ‬التقرير‭ ‬الخبيث‭ ‬جملة‭ ‬وتفصيلاً،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬يتذكر‭ ‬أنَّ‭ ‬لسانه‭ ‬قال‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام،‭ ‬لكن‭ ‬رجَّح‭ ‬مع‭ ‬سريرة‭ ‬نفسه‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬التصريح‭ ‬الخطير‭ ‬ربما‭ ‬بزغ‭ ‬من‭ ‬رأسه‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬سكر؛‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬أقسم‭ ‬أغلظ‭ ‬الإيمان‭ ‬أنَّ‭ ‬التقرير‭ ‬إنَّما‭ ‬كتبه‭ ‬أحدهم‭ ‬ضدَّه‭ ‬بشكل‭ ‬كيدي؛‭ ‬قال‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭: ‬

‭- ‬في‭ ‬المرة‭ ‬القادمة‭ ‬سيأتون‭ ‬بصوتك‭ ‬وأنت‭ ‬تهذر‭ ‬بهذا‭ ‬الكلام؛‭ ‬أحذرك‭ ‬من‭ ‬تكرار‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة؛‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬الحظ‭ ‬أنَّ‭ ‬التقرير‭ ‬وقع‭ ‬بيد‭ ‬أحد‭ ‬ضباط‭ ‬الأمن‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يكتبون‭ ‬في‭ ‬جريدتنا،‭ ‬وإلاَّ‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬معتقل‭ ‬الرضوانية‭ ‬الآن؛‭ ‬احذرك‭ ‬من‭ ‬الإفراط‭ ‬بالشرب؛‭ ‬هيا‭ ‬انصرف‭.‬

بعد‭ ‬أيام‭ ‬عرف‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬أنَّ‭ ‬الذي‭ ‬تستَّر‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬التقرير‭ ‬الكارثي؛‭ ‬هو‭ ‬ضابط‭ ‬الأمن‭ ‬صابر‭ ‬الدوري‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬مقالاً‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬على‭ ‬الصفحة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬جريدة‭ ‬العراق‭ ‬التي‭ ‬يعمل‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بها‭ ‬بصفة‭ ‬مصحح‭. ‬لكنَّ‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬ينته‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد؛‭ ‬إذْ‭ ‬وصلت‭ ‬أنباء‭ ‬سيئة‭ ‬أخرى‭ ‬عن‭ ‬زيارة‭ ‬أحد‭ ‬ضباط‭ ‬الأمن‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬والاستفسار‭ ‬عنه؛‭ ‬وشاءت‭ ‬المصادفة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الشاعر‭ ‬جواد‭ ‬الحطاب‭ ‬حاضراً‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الساعة‭ ‬وكان‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬أمانة‭ ‬سر‭ ‬الاتحاد،‭ ‬وبذكاء‭ ‬وبفطنة‭ ‬الحطاب‭ ‬ومحبته‭ ‬لصديق‭ ‬الغجري‭ ‬تمكَّنَ‭ ‬من‭ ‬احتواء‭ ‬الموقف؛‭ ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬التقرير‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬لهم،‭ ‬إذْ‭ ‬قال‭ ‬لضابط‭ ‬الأمن‭: ‬

‭- ‬أنتم‭ ‬تصنعونَ‭ ‬بطلاً‭ ‬من‭ ‬صعلوك‭ ‬مشرَّد؛‭ ‬عندما‭ ‬تلقونَ‭ ‬القبض‭ ‬عليه‭.‬

يتبع‭…‬


مشاهدات 86
الكاتب حسن النواب
أضيف 2024/08/12 - 3:28 PM
آخر تحديث 2024/08/14 - 1:48 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 339 الشهر 5911 الكلي 9981455
الوقت الآن
الأربعاء 2024/8/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير