أحكمَ التجمع الثقافي قبضته على روافد الثقافة برمتها الأدب والفن والصحافة؛ ليس هناك من جهة إعلامية أخرى مهما كان شأنها ومنزلتها الرسمية أن تجرؤ على إقامة أي نشاط ثقافي بدون موافقة الأولمبية، وإذا ما غامرت بذلك سيجد أفرادها مكانهم في معتقل الرضوانية وليس بعيداً سيحشون فم أصحابها بالرصاص. في تلك الفترة بدأت أنشطة هذا التجمع المدعومة بشكل مباشر من اللجنة الأولمبية تظهر للعيان، وكان بوسعك أنْ ترى مع بداية كل شهر زحف حشود الأدباء والفنانين والصحفيين على مبنى اللجنة الأولمبية والوقوف بطابور طويل لاستلام مكافآتهم الوضيعة من هناك؛ وكان صديق الغجري من بين الذين يبكّرونَ صباحاً للحصول على تلك الدنانير المعدودة حتى يتجنَّب الوقوف بالطابور المُذل. بعد مضي شهرين انتقل توزيع تلك المكافآت إلى بناية السينما والمسرح التي أصبحتْ مقراً للتجمع الثقافي، كانت المفارقة المحزنة أنَّ معظم الأدباء يستلمون تلك المكافآت باستثناء جان دموُّ الذي لم يدرج اسمه مع المشمولين بتلك المكرمة، وهو الأكثر حاجة لها بسبب وضعه البائس؛ لكن لم يكن متذمراً أو محتجَّاً على تهميشه ونسيانه وحرمانه عن قصد من تلك المنحة؛ بل كان ينتظر أترابه من الأدباء الصعاليك في حانة روافد دجلة حين يستلمون تلك الدنانير الأولمبية والتي سرعان ما تتبخر خلال جلسة واحدة. ذات مساء استدعى نصر الله الداودي رئيس تحرير جريدة العراق صديق الغجري إلى مكتبه؛ فتح فمه كمن يطلق رصاصة مباغتة على رأس صديق الغجري:
- سيقودكَ سكرك هذا إلى السجن أخيراً.
- خير أستاذ؟
سألهُ بلهجة صارمة:
- وهل تتوقَّع خيراً يأتي من لسانك السليط؟
صعق دم صديق الغجري بشحنات كهربائية مجهولة وتلعثم لسانه؛ قال مبرِّراً:
- أستاذ منذ شهر لا أشرب إلاَّ القليل.
رفع رئيس التحرير ورقتين محشوتين بسطور سود ولوَّح بهما في الهواء؛ طرح سؤاله حانقاً:
- وهذا التقرير الذي كتب عنك؛ هل ستنكر ما جاء فيه؟
كاد صديق الغجري أنْ ينكفأ على وجهه من الخوف؛ لكنه تماسك قليلاً ليلوذ صامتاً؛ عاد رئيس التحرير موجهاً كلامه بنبرة ساخطة:
- حضرتك تسخر من مكرمة السيد الرئيس التي تستلمها كل شهر من اللجنة الأولمبية.
- مستحيل أستاذ أسخر من مكافأة تسد رمقي.
- وتقول لأصدقائك من الصعاليك بحانة روافد دجلة إنَّ المكرمة تكاد لا تكفي لشراء عشر علب من السجائر؛ ألم تقل هذا الكلام؟
لم يكن أمام صديق الغجري سوى نكران مام ما جاء بذلك التقرير الخبيث جملة وتفصيلاً، بل هو حقيقة لا يتذكر أنَّ لسانه قال مثل هذا الكلام، لكن رجَّح مع سريرة نفسه أنَّ هذا التصريح الخطير ربما بزغ من رأسه في لحظة سكر؛ ومع ذلك أقسم أغلظ الإيمان أنَّ التقرير إنَّما كتبه أحدهم ضدَّه بشكل كيدي؛ قال رئيس التحرير:
- في المرة القادمة سيأتون بصوتك وأنت تهذر بهذا الكلام؛ أحذرك من تكرار هذه الحادثة؛ من حسن الحظ أنَّ التقرير وقع بيد أحد ضباط الأمن من الذين يكتبون في جريدتنا، وإلاَّ كنت في معتقل الرضوانية الآن؛ احذرك من الإفراط بالشرب؛ هيا انصرف.
بعد أيام عرف صديق الغجري أنَّ الذي تستَّر على ذلك التقرير الكارثي؛ هو ضابط الأمن صابر الدوري والذي كان يكتب مقالاً كل أسبوع على الصفحة الأخيرة من جريدة العراق التي يعمل صديق الغجري بها بصفة مصحح. لكنَّ الأمر لم ينته عند هذا الحد؛ إذْ وصلت أنباء سيئة أخرى عن زيارة أحد ضباط الأمن إلى مبنى اتحاد الأدباء والاستفسار عنه؛ وشاءت المصادفة أن يكون الشاعر جواد الحطاب حاضراً في تلك الساعة وكان يشغل منصب أمانة سر الاتحاد، وبذكاء وبفطنة الحطاب ومحبته لصديق الغجري تمكَّنَ من احتواء الموقف؛ والتقليل من شأن التقرير الذي وصل لهم، إذْ قال لضابط الأمن:
- أنتم تصنعونَ بطلاً من صعلوك مشرَّد؛ عندما تلقونَ القبض عليه.
يتبع…