الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ثورة العشرين.. بناء الهوية الوطنية وتأسيس الدولة

بواسطة azzaman

ثورة العشرين.. بناء الهوية الوطنية وتأسيس الدولة

محمد مظفر الأدهمي

 

تمثل ثورة العشرين رمزا مشرقاً في تاريخ العراق الحديث؛ لأنها قامت على اساس الوحدة الوطنية للعراق من خلال التفاعل الذي وقع بين بغداد والفرات الاوسط والانبار وبقية انحاء البلاد في شمالها وجنوبها  للوقوف بوجه الاحتلال والانتداب البريطاني، فلم يكن للمذهبية والطائفية والعنصرية مكان فيها.

ولهذا نجد أن جمعية حرس الاستقلال السرية، التي تأسست في بغداد وتشكلت لها فروع في كربلاء والنجف والناصرية والحلة والشامية والكاظمية والموصل عام 1919، والتي هيأت سياسياً وفكريا للثورة؛ قد ضمت نخبة من العراقيين بمختلف مذاهبهم ليشكلوا نموذجاً للهوية الوطنية للعراق، والتي اصبحت خيمة لهم في كفاحهم ضد الوجود البريطاني.

فكان: يوسف السويدي ومحمد الصدر وعلي البازركان ومحمد مهدي البصير أقطابًأ قيادية في بغداد، وأصبح جعفر أبو التمن ومحمد باقر الشبيبي حلقة الوصل بينهم وبين القيادات العشائرية والدينية في الفرات الأوسط. وصار الشيخ ضاري المحمود نبراساً للتلاحم الوطني بين غرب العراق ووسطه وجنوبه عندما اعلن الثورة على البريطانيين في الانبار والتحق بثوار الفرات الأوسط والجنوب في مقاومة الاحتلال والانتداب البريطاني للعراق.

إن بواكير التعبير عن الشعور بالوحدة الوطنية في العراق قد ظهرت بشكل واضح قبل اندلاع الكفاح المسلح للثورة وفي مقدماتها، حين وحدت النخب السياسية في بغداد والكاظمية وكربلاء والنجف والكوفة كلمتها في الاستفتاء الذي اجراه البريطانيون المحتلون في اواخر عام 1918 ومطلع 1919 فطالبت بقيام حكومة عربية اسلامية في العراق بجغرافيته الطبيعية من شمال الموصل الى الخليج العربي  بدون حماية اوربية، وان يكون لهذه الحكومة العربية  مجلس وطني منتخب، وان يكون احد انجال الشريف حسين ملكا على العراق، مما يوضح للباحث ان المشاعر العروبية الاسلامية القائمة على الإيمان بوحدة الأرض العراقية كانت الاساس الذي بني عليه مبدأ الاستقلال في عراق الرافدين، دجلة والفرات.

وتأكيدًا لوحدة العراق الوطنية فقد حدد العراقيون حدود العراق الطبيعية في مؤتمرهم الذي عقد في آذار 1920 بدمشق، اي قبل قيام الثورة المسلحة بحوالي اربعة اشهر، باعلانهم في بيانهم وبالنص: «استقلال البلاد العراقية المسلوخة عن تركيا بحدودها المعروفة من شمال ولاية الموصل الى الخليج العربي استقلالا لا شائبة فيه».

وقد قامت فروع جمعية العهد العراقي بتوزيع هذا البيان على جميع فروعها في العراق، و قام اعضاء جمعية العهد في الموصل بلصق منشورات على الجدران مذيلة باسم المؤتمر العراقي تدعو الى الثورة.

إن هذه المطالب تؤكد ان النخبة السياسية العراقية التي عبرت عن فكر ثورة العشرين  قد وضعت اسس وحدة العراق الجغرافية والديموغرافية في اطار وطني واضح المعالم؛ ولهذا وعندما أُعلن الانتداب البريطاني على العراق في 25 نيسان 1920، والذي شكل العامل المباشر لاندلاع الكفاح المسلح في 30 حزيران 1920؛ طالب العراقيون بعقد مؤتمر عراقي منتخب يقرر هو شكل الحكم والحاكم في البلاد.

ومن الملاحظ أن هذا المطلب الوطني قد قدم في بغداد من وفد تشكل من آهالي بغداد والكاظمية الى وكيل الحاكم المدني العام ولسن، والى الحكام البريطانيين العسكريين في مناطق الفرات الاوسط والجنوب، بصيغة موحدة واحدة، فاستخدام مصطلح المؤتمر العراقي يعني الايمان بوحدة العراق الوطنية.

كفاح مسلح

ولودققنا في تركيبة المندوبين الخمسة عشر الذين تم اختيارهم في اجتماع شعبي عقد في جامع الحيدر خانة ببغداد في 26 مايس 1920، اي قبل اندلاع الكفاح المسلح باربعة ايام، ليرفعوا مطلب عقد المؤتمر العراقي العام  الى وكيل الحاكم المدني البريطاني العام اي تي ولسن؛ لوجدناهم يمثلون الشعب العراقي بعربه ومسلميه وطوائفه وشرائحه الاجتماعية بما فيهم المسيحيين واليهود، واطلق عليه اسم الوفد البغدادي الكاظمي لكي تثبت النخب السياسية للبريطانيين أن الوحدة الوطنية هي الرابط الأساس لحركتهم في رفض الانتداب والمطالبة بالاستقلال.

من جانب آخر فان مقدمات الثورة وامتدادا تها الى بقية انحاء العراق توضح حقيقة الوحدة الوطنية العراقية عندما قامت ثورة تلعفر وشارك الكرد وتحركت الموصل لتشكل بوحدتها الوطنية عنوانا لمقدمات ثورة العشرين، وحينما قررت بغداد في رمضان / مايس 1920م أن تقام المواليد النبوية والشعائر الحسينية في آن واحد ومكان واحد للتعبير عن وحدة العراقيين في مواجهة الانتداب البريطاني من خلال هذه الفعاليات، والتي سبقت قيام الكفاح المسلح في 30 حزيران باسابيع معدودة.

لقد رافق انفجار الكفاح المسلح لثورة العشرين صدور صحف كشفت عن ايمان الثورة بوحدة العراق الوطنية، ففي النجف صدرت جريدة (الفرات) يوم 15 آب 1920 التي حثت الثوار في مقالاتها الوطنية على مهاجمة البريطانيين وتدمير قواعدهم العسكرية من اجل استقلال العراق، وقد أسسها محمد باقر الشبيبي احد قادة جمعية حرس الاستقلال السرية وحلقة الوصل بين بغداد والفرات الاوسط خلال الثورة. وهي الجريدة العراقية الوحيدة التي نشرت (قرار المؤتمر العراقي) المنعقد في دار البلدية في دمشق في 7 آذار 1920، والذي حدد حدود العراق الطبيعية وأعلن استقلاله ضمن هذه الحدود الوطنية.

وفي النجف أيضا صدرت في أواخر ايام الثورة جريدة الاستقلال بعد موافقة قائمقام النجف الذي عينه الثوار، فاظهرت تمسكها بالاستقلال والوحدة الوطنية.

وفي بغداد اصدر عبد الغفور البدري جريدة (الاستقلال) يوم 28 آب 1920، التي اعلنت في عددها الاول عن نهجها الوطني المؤمن بوحدة العراق الوطنية فقالت: «الاستقلال منشور وطني حر يخدم أفكار العرب عامة والعراقيين خاصة يدافع عما يدافعون ويطلب ما يطلبون، ولا يبالي إذا انزعج منه الخائنون، ولا ينتسب إلا إلى الوطنية الصادقة... ويصغي لنداء الوطنيين بمليء أذنيه، وأمنية الشعب هي غاية ما يتمناه».

وحدة وطنية

وخلال حملتها ضد البريطانيين، نشرت الجريدة سلسلة من المقالات اكدت  فيها بقوة على وحدة العراق الوطنية ودعت الى التسامح والإخاء بين أهل العراق على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وتوثيق عرى الاتحاد الوطني بينهم. فاعتبر البريطانيون ذلك  تحريض على الفتنة مما ادى الى اغلاقها، وحكم على محررها وكادرها بأحكام تتراوح بين ستة الى ثمانية عشر شهراً.

إن المقالات التي نشرتها هذه الصحف، ومنها مقالات وقصائد الكتاب والشعراء والمفكرين الذين ساهموا في الثورة تظهر سعيهم لارساء قاعدة شعبية واسعة تشمل العراق كله بحدوده الطبيعية لتعزيز الوحدة الوطنية من اجل دعم الثورة وتحقيق الاستقلال. وهكذا اظهرت الصحافة الوطنية أن الثورة هي كفاح مسلح من اجل استقلال العراق ووحدته الوطنية.

إن التأكيد على وحدة العراق الوطنية في ثورة العشرين، واعتماد مفكريها وقادتها مبدأ التواصل والتلاحم بين ابناء البلد الواحد، قد شكل  في حد ذاته اساسا متينا بنيت على اساسه دولة العراق الحديثة منذ قيامها عام 1921، وقد وضح ذلك في نتائج الثورة حينما سارعت بريطانيا بتشكيل حكومة عراقية مؤقتة، واستجابت لاجماع العراقيين على ترشيح الامير فيصل بن الحسين ملكا على العراق، فرافقه قادة ثورة العشرين من الحجاز في رحلته البحرية الى البصرة، والذين كانوا قد التجأوا الى الشريف حسين بعد الثورة، وهم محمد الصدر ويوسف السويدي وعلوان الياسري ومحسن ابو طبيخ ورايح العطية.

وعندما جرت انتخابات المجلس التأسيسي لوضع اسس الدولة العراقية انتخب ثمانية من قادة ثورة العشرين اعضاء في المجلس وهم الشيخ شعلان ابو الجون والشيخ عبدالواحد سكر والشيخ علوان الياسري والشيخ رايح العطية عن لواء الديوانية، وانتخب عن لواء المنتفك (ذي قار) الشيخ موحان الخيرالله وعن لواء ديالى الشيخ حبيب الخيزران، وانتخب الشيخ احمد الشيخ داوود عن لواء بغداد.

وقد كان لهؤلاء دور مؤثر في مناقشات المجلس وقراراته، ومنها موقفهم الرافض للمعاهدة العراقية البريطانية لعام 1922 لانها تضمنت بنود الانتداب البريطاني الذي ثاروا ضده في ثورة العشرين، فكانوا يريدون من المعاهدة بديلا عن الانتداب لتكون الدولة العراقية الحديثة مستقلة وذات سيادة.

ومن اوضح الادلة على ذلك الهتافات التي صدرت عن التظاهرة الشعبية التي تجمعت حول بناية المجلس التأسيسي يوم 29 مايس 1924، داعية اعضاء المجلس الى رفض المعاهدة، وكانوا يهتفون (ليحيى رجال الوطن. ليحيى الاستقلال. لا تمهروا المعاهدة).

ولما كانت التظاهرة قد وقعت خلال بدء مناقشة الاعضاء للمعاهدة، وكانت الهتافات تصل الى اسماع الاعضاء، فقد وقف الشيخ رايح العطية والقى كلمة قائلًا: إن هذه هي رغبة الشعب في تعديل المعاهدة.

وعموما فإن مناقشات المجلس التأسيسي للمعاهدة قد شهدت نشاطا ملحوضا لقادة ثورة العشرين، ومنها محاولة الشيخ احمد الشيخ داوود اعادة مسودة المعاهدة الى الحكومة لتعديلها وفقا لمطالب  لجنة المعاهدة التي شكلها المجلس، لكن رئيس المجلس افشل التصويت.

وتظهر محاضر جلسات المجلس كيف كانت ابيات الشعر الحماسية لاثارة النخوة الوطنية في نفوس الاعضاء، تتضمن كلمات قادة ثورة العشرين خلال مناقشات المجلس.

وعندما وضعت مسودة المعاهدة للتصويت دون موافقة الانكليز على تعديلها، كان من بين المعارضين لها قادة ثورة العشرين، وهم الشيوخ : شعلان ابو الجون وحبيب الخيزران وعبدالواحد سكر ورايح العطية واحمد الشيخ داوود.

 كما كان لقادة ثورة العشرين دور مهم في تأكيد وحدة العراق الوطنية عند مناقشة القانون الاساسي (الدستور)، فقد تشكلت لجنة لتدقيق مسودة القانون الاساسي  لتضم ممثلا عن كل لواء من الوية العراق، واكدوا في مداخلاتهم النقاشية على وحدة العراق وعدم التمييز بين سكانه بسبب قومية او دين او لغة.

وهكذا نجد أن ثورة العشرين كانت اساساً وركنا مهما  للوطنية جامعة في العراق التي وحدت أبناءه في انتهاج طريق واحد مشترك، في مواجهة الاستعمار البريطاني بالكفاح المسلح والسعي بعد الثورة لأن يكون العراق دولة مستقلة موحدة بعيدة عن اي نفوذ اجنبي مهما كان نوعه.

إن ثورة العشرين كانت ثورة الوحدة الوطنية والتسامي على الخلافات لأجل العراق وتحريره واستعادته من الاحتلال البريطاني، ولذلك اتصفت الثورة بتلاحم المجتمع العراقي حين توفرت لها قيادات واعية استطاعت ايجاد التواصل والتعاون بين العراقيين جميعا لمحاربة المحتل، ولعب دور مهم في وضع اسس الدولة العراقية الحديثة.

 

 


مشاهدات 36
الكاتب محمد مظفر الأدهمي
أضيف 2024/07/02 - 5:25 PM
آخر تحديث 2024/07/03 - 8:09 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 163 الشهر 1000 الكلي 9363072
الوقت الآن
الأربعاء 2024/7/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير