مركزية مصر ولا مركزية العراق .. لماذا؟ (2)
العراقيون يكرهون السلطة عكس المصريين
منقذ داغر
في المقال السابق أتضح أنه على الرغم من أوجه الشبه الجغرافي والبيئي والأجتماعي وحتى الأقتصادي بين حضارتي النيل والرافدَين،الأأنهما سلكا(عبر التاريخ وليس فقط في فجره) مسلَكَين سياسيَين مختلفَين. ففي الوقت الذي نجحت فيه المركزية الشديدة في مصر،تم تحديها بل والتمرد عليها من قبل العراقيين. إذ لم يتم توحيد العراق بحدوده الحالية تحت حكم واحد الا في 1921. لا بل أن المسلمين أبان الفتح الأسلامي وقبل الخلافة العباسية كانوا يطلفون على العراق الحالي مصطلح (العراقَين) كنايةً عن حاضرتَيه الرائعتَين البصرة والكوفة،ودلالةً على تنازعهما شرف الريادة والسيادة في العراق. فالعراق عندهم لم يكن واحدا.وحتى عندما تم توحيد العراق تحت قيادة فيصل الأول رحمه الله طالب وجهاء البصرة بالأستقلال أو على الأقل بمجلس تشريعي منفصل. كما كانت هناك محاولات جدية لأنفصال الموصل عن العراق هذا فضلاً عن موقف الكورد الرافض لأن يصبحوا جزءً من العراق. فلم تكن بغداد ولا حتى الحكم تحت قيادتها مطمعاً لكثير من العراقيين الذين كانوا يرون في مناطقهم أهلية أكبر للحكم أو كانوا يريدون على الأقل أعطائهم وضعاً مميزاً عن التابعية المطلقة لها. أكثر من ذلك فأن كثيرمن العراقيين لا زالوا يُسمّون بأسم المحلة أو المنطقة التي ولدوا ونشأوا فيها كالشيخلي والكرّادي والدوري والعاني والراوي والشطري وسواها. ولطالما كان هناك تنافس،وأحياناً مشاكل، بين مناطق(محلات) المدينة الواحدة كما في بغداد والنجف وسواهم فضلاً عن التنافس بين المدن الصغيرة المتجاورة مثل عانة وراوة،وتكريت وسامراء...الخ. فالأعتزاز بالأنتماء الجغرافي الأصغر هو الطاغي في العراق. أما على الجانب الآخر فعلى الرغم مثلاً من وجود حاضرتَي الأسكندرية والقاهرة فلم تكنّى مِصر سوى بأسمها الموحّد (مصر). وحينما أراد الرسول(ص) دعوة المصريين للأسلام أرسل رسالة الى عظيم القبط داعياً أياه للأسلام لأنه يعلم أنه بأسلامه سيطيعه كل المصريين ويُسلموا. والمصريون يقولون-للآن-حين يقصدوا القاهرة بأنهم ذاهبين لمصر،وكأنهم يقولون أن القاهرة تمثل كل مصر بالنسبة لنا.وكذلك يفعل الشاميون حين يقصدون دمشق فيقولوا أنهم ذاهبون للشام. فالعاصمة والمركز مهمان للمصريين لأن فيهما منبع الحكم وشرعيته،ومركز التوحد ودلالته.
لقد كانت الحضارة السومرية تتكون في أوج عظمتها من 12 مملكة شبه مستقلة.
حكم ذاتي
أما الحضارتين الأكدية والآشورية فكانتا تضمان أكثر من ذلك من المدن ذات الحكم الذاتي أو شبه المستقل،على مساحة أرض العراق الحالية. أن نظام الحكم في كل حضارات وادي الرافدين الكبرى والممتدة عبر أكثر من أربع آلاف سنة قبل الميلاد كان أشبه بما يعرف حالياً بنظام للحكم الفيدرالي،وأحياناً الكونفدرالي. صحيح أنه في كثير من الفترات كان هناك ملك واحد كبير ومسيطر على تلك الحضارة وأمتدادها الجغرافي مثل حمورابي ونبوخذ نصروسرجون الأكدي وآشور بانيبال وسواهم ،لكن كل المدن كانت تمتاز بحضارة مميزة وأقتصاد شبه مستقل ،ونظام حكم ذاتي. لذلك فأن نظام دولة المدينة city state قد ظهر لأول مرة في التاريخ على أرض سومر جنوب العراق. أما في مصر فقد كان هناك(غالباً) فرعون واحد ودولة مركزية واحدة تحكم مصر. لا بل أن كلمة فرعون في أصلها تعني البيت الكبير أو العالي في أشارة الى قصر الحاكم. ففرعون بالنسبة للمصريين رمز للسلطة المركزية الجامعة وليس الملك فقط. لا بل أنه(أي الفرعون) إله واحد بالنسبة للمصريين في حين أن الملك بالنسبة للعراقيين القدامى هو مندوب عن الإله وليس إلهاً يعبد. والحاكم بالنسبة للسومريين ظهر في مرحلة لاحقة ومتأخرة عن ظهور الآلهة وظهور المعبد. فأول ملك(موثق تاريخياً) ظهر في أوروك Uruk جنوب العراق أسمه أنمركار في مرحلة متأخرة عن تأسيس أوروك نفسها. وقد ظهر لا لحاجة اهل أوروك لحاكم بل لحاجتهم لقائد عسكري يقود جيشهم ضد غزو كيش لهم.وقد تم أنتخاب هذا القائد الذي وسع سلطاته فيما بعد ليصبح حاكماً من قبل مجلس المدينة. بمعنى أن الراقيين القدامى لم يريدوا حاكماً لهم بخاصة وأنهم كانوا يمتلكون مجلسي الشباب والشيوخ لأتخاذ القرار عندهم. أكثر من ذلك فأن السومريين كانوا يؤمنون،حتى في الدين،بتعدد الآلهة وأن من يتخذ القرار النهائي هو مجمّع أو مجلس الآلهة الذي يجتمع وقد يتصارع لأتخاذ القرار بخاصة حين يتعلق ذلك القرار بأختيار الملك. وقد كان الأستاذ طه باقر لمّاحاً حين أشار لأختلاف طبيعة العراقيين عن المصريين القدامى من خلال أدبهم الملحمي أذ يقول إن مزاج حضارة وادي الرافدين عنيف ومتشائم (وغير موحّد) وهو ما بدا واضحاً في الاساطير والملاحم العراقية. ففي قصة الخلق البابلية تتصارع الالهة اولاً على سيادة الكون قبل إن تتفق على إله مندوب عنها ثم يخلق كبير الالهة الإنسان ليخدم هذا الاله الحاكم. فعملية خلق الإنسان والاله الحاكم جاءت بعد صراع. في حين إن الخلق في قصة الخليقة لحضارة وادي النيل حصل بسلاسة وهدوء وبمجرد إن ارادت الالهة ذلك». لا بل أن قصة الخلق عند المصريين القدامى ترتبط دوماَ بالماء(وهو لطيف وبارد) ،وليس بالصراع في السماء كما عند العراقيين! الواقع فأن هذا الأختلاف الواضح له أسبابه الجيوبولتيكية التاريخية والتي سيتم تفصيلها لاحقاً.