هل ممكن عودة حزب البعث إلى السلطة في العراق؟
عباس النوري
الخلاصة العقلانية المختصرة: احتمال عودة حزب البعث بصيغته التاريخية (حزبٍ واحدٍ يهيمن مركزياً على الدولة، ويستعيد أجهزة قمع واسعة) ضعيفٌ جداً. لكن خطرَ استرجاع النفوذ من قبل أفراد وبُنى سابقة (شُبكات/مقاولات/مجموعات تعمل في السر أو تحت شعارات وطنية) قائمُ وموجود إذا تركت الدولة فراغات مؤسساتية وأمنية وقانونية. لذلك، منع العودة يتطلب مزيجاً من العدالة الانتقالية، إصلاح المؤسسات، وقوانين انتخابية ذكية تُحمي العملية الديمقراطية من التجيير الاستبدادي.
1. تمهيد: لماذا يهم السّؤال؟
تجربة العراق (1968–2003) مع حكم البعث كانت تجربة تاريخية عميقة الأثر: بيئة استبدادية، أجهزة أمنية قوية، جرائم كبرى ضدّ الشعب (الأنفال، حلبجة، مقابر جماعية، التعذيب) وترسبات اجتماعية واقتصادية وسياسية لا تزال تؤثر اليوم. أي نقاش عن «عودة البعث» لا يمكن فصله عن هذه الذاكرة والجروح، ولا يمكن فصله عن تغيّر المعطيات الإقليمية والدولية بعد 2003.
2. باختصار: ماذا فعل البعث في العراق (دليلٌ موجز للأثر والجَرم)
• حملة الأنفال (1987–1989) التي وثّتها منظمات حقوق الإنسان كانت موجهة ضد سكان المناطق الكردية وأفضت إلى قتل وتشريد وتدمير قرى واسعة. تقرير Human Rights Watch وثّق الأبعاد الجنائية للحملة.
• قصف حلبجة الكيميائي (16 آذار 1988) مثال بارز على استخدام أسلحة محظورة ضد مدنيين؛ الآثار الصحية والاجتماعية استمرت لعقود.
• اكتشاف مئات مقابر جماعية بعد 2003 كشف عن نطاق الانتهاكات والإعدامات السياسية المنظمة، إضافة إلى ممارسات ممنهجة للتعذيب والاختفاء القسري طيلة عقود.
هذه المآسي أنتجت ذاكرة جماعية قوية رافضة لأي رموز بعثية، وخلقت مطالب مستمرة بالعدالة والفظح والتوثيق.
3. واقع ما بعد 2003: عودة أفراد وبِنى (جزئية) إلى مؤسسات الدولة
بعد سقوط النظام ظهرت مسارات متناقضة:
• إجراءات «إلغاء البعث» (De-Baathification) سعت إلى منع عودة الجهاز البعثي، لكن تطبيقها شهد أخطاء وأثار سياسية واجتماعية (إقصاء واسع أثر سلباً على الاستقرار وأعاد بعضهم إلى الحلبة لاحقاً عبر مسارات قانونية وسياسية). تقرير ICTJ يُحلّل دروس هذه السياسة ويحذر من تبعات إقصاء على نحو عشوائي.
• منذ منتصف/أواخر العقد الأول بعد 2003 جرت محاولات لإعادة توظيف «بحسب الرتب» لموظفين بعثيين تقنيين/إداريين ليسوا متّهمين بجرائم، وقد مرَّت قوانين ومشاريع لتخفيف الحظر عن فئات محدودة — تقارير وكالات إخبارية وثّقت نقاشات وقرارات برلمانية حول إعادة توظيف بعضهم.
• بالفعل، وثائق وأبحاث (مثل مناقشات حول إعادة تسليم أو «إعادة» سجلات الدولة) تشير إلى أنّ جزءاً من السجلات والآليات الإدارية السابقة أعيد توظيفها أو استُخدمت لاحقاً داخل شبكات أمنيّة/مصلحيّة. دراسة/تقرير عن إعادة سجلات البعث (Hoover) أثار نقاشاً حول ما عُيد من مواد وأثرها.
الاستنتاج: ليس «حزب بعثي منظّم» عاد ليحكم، لكن أفراداً و«مكونات إدارية» سابقة تآكلت حدودها واندماجت أحياناً ضمن ترتيبات جديدة — وهو ما يخلق مخاطرة طويلة الأمد إذا لم تُحكم قواعد الشفافية والرقابة.
4. «شبكات تعمل في السر» — رواسب وتوظيف إقليمي
تاريخياً كانت هناك روابط بين سلطات ومنابر إقليمية ودول مختلفة (سورية، دول إقليمية أخرى) ومع بعض عناصر النظام العراقي السابق؛ بعد 2003 أيضاً برزت قوى إقليمية (على رأسها إيران) ذات نفوذ واسع في العراق، وبعض التسريبات والأبحاث تناولت مسألة اختراق وتأثير عناصر إقليمية داخل مؤسسات سياسية وأمنية عراقية. هذه النفوذات تُغير معادلات القوة وتُستخدم لتدعيم تشكيلات مسلحة أو مشاريع سياسية مختلفة بنياً على مصالح إقليمية. لكن الربط بين «بعث سوري» و«بعث عراقي» أو دعم خارجي مباشر لعودة بعثية يحتاج تفصيلًا واعتدالاً في الصياغة: ثمة حالات تعاون أو ملاذ أو استغلال، لكن لا توحّد سهل بين كل هذه الممارسات.
5. هل يمكن استغلال النظام الديمقراطي الانتخابي لإعادة إنتاج العسكرة/الاستبداد؟
نعم — الديمقراطيات الضعيفة أو المؤسَّسات الهشّة يمكن استغلالها من قبل قوى تسعى إلى توجيه الانتخابات لصالحها أو لاستخدام مظاهر «الوطنية» كقناع لاستعادة نفوذ استبدادي. تقارير تحليلية عن «كيف تدافع الديمقراطيات عن نفسها من الاستبداد» تشير إلى أدوات عملياتية: التمويل الخفي، السيطرة الإعلامية، استخدام القوانين لصالح أحزاب مركزية، التجنيد الميليشيوي، استغلال الأزمات لتوسيع الصلاحيات التنفيذية. لذلك تصميم قوانين انتخابية وتدابير رقابية قوية أمر حاسم.
6. كيف يُصاغ قانون انتخابي ليكون صمام أمان ضدّ «عودة بعثية مختبئة»؟
فيما يلي مقترحات تشريعية ومؤسّسية عملية قابلة للتبنّي — تركّز على مبدأين: (أ) منع التنظيمات الاستبدادية/العنيفة من استغلال الشعار الوطني، و(ب) حماية الحقوق السياسية للأفراد غير المتورطين في جرائم:
أ. تعريف قانوني واضح للممنوعات (نصوص دقيقة)
1. تعريف تنظيمي صريح: نص يحدد بوضوح أن أي حزب/حركة تسعى لإلغاء النظام الديمقراطي، إلغاء التعددية، أو استخدام العنف السياسي كأداة للوصول إلى السلطة — تُمنع من المشاركة السياسية. (المرجع: نماذج قوانين منع الأحزاب المتطرفة في دساتير/قوانين أوروبية).
2. حظر رموز وسياسات محددة: منع استخدام شعارات أو رموز مرتبطة بكيانات ارتكبت جرائم ضدّ الإنسانية، أو حملات دعائية تبرّئ جرائم معلنة (تعريف وتوثيق بالاستناد إلى محاكمات أو تقارير حقوقية معترف بها). (مبدأ مشابه لقيود رموزية في تشريعات دولية).
ب. آليات تحقُّق/vetting موضوعية وعادلة
3. لجنة مستقلة للتحقّق من سجلات الأحزاب: هيئة قضائية/مستقلة مخوّلة فحص ملفات الأحزاب وبرامجها وقياداتها قبل تسجيلها، مع إجراءات استئناف واضحة.
4. فحص قيادات الحزب (لكن لا استهداف شامل للأفراد غير المجرمين): يُجرى فحص للمرشحين على مستوى القيادة التنفيذية للأحزاب (أعضاء مجلس القيادة أو القوائم العليا) للتحقق من عدم تورطهم في جرائم خطيرة. لكن لا يصل ذلك إلى حرمان فئات واسعة من الموظفين التقنيين عديمي الضلوع في الجرائم — تفاديًا لخطأ الإقصاء الواسع كما حصل سابقًا. (درس ICTJ).
ج. قواعد شفافية التمويل والحملات
5. قوانين كشف التمويل: إلزامية كشف مصادر تمويل الأحزاب والحملات، مع رقابة صارمة على التمويل الأجنبي أو مصادر مجهولة. هذا يقطع الطريق أمام تمويل شبكات مدعومة خارجياً لإعادة ترتيب المشهد باسم «وطني».
د. حماية من العسكرة والميليشيات
6. حظر المشاركة السياسية لمجموعات مسلّحة: أي مجموعة ذات بنية عسكرية أو ارتباط ميليشياوي لا يمكن تسجيلها كحزب؛ وتُطبق عقوبات فورية على من يسعى لتسليح أو إعادة تنظيم مجموعات بطريقة موازية للدولة.
7. مساءلة قادة المجموعات المسلحة: تشريعات واضحة لاعتبار التحريض أو التمويل أو إعادة تنظيم ميليشيات جرائمًا تُفقد مزايا المشاركة السياسية.
هـ. آليات الرقابة القضائية والدولية
8. محاكم متخصصة لمعالجة الجرائم السابقة (عدالة انتقالية): تشجيع توثيق الحقائق والمحاكمات العادلة ضد قادة ارتكبوا جرائم كبرى؛ عدم المساءلة يولّد أرضاً خصبة للعودة الرمزية.
9. مؤسسات رقابية مستقلة (انتخابية ومحايدة): هيئة انتخابية مستقلة قوية (مادون التأثير الحزبي/النفوذ الأجنبي) لها صلاحيات فض النزاعات بسرعة وفعالية.
و. ضمان الحقوق الفردية والفرص لإعادة الإدماج
10. آلية إعادة إدماج مُنظّمة: قانون يميّز بين متهمين بجرائم والموظفين الفنيين— إطار يسمح بإعادة إدماج التقنيين غير المتورطين في انتهاكات بعد تقييم موضوعي، مع برامج شفافية ومساءلة. هذا يمنع نشوء قاعدة اجتماعية واسعة من المستبعدين التي قد تُستغل سياسياً.
7. إجراءات تطبيقية مقترَحة (قابلة للتبنّي فوراً)
• سنّ قانون انتخابي يتضمّن بنود (1)–(9) أعلاه مع جدول زمني وميثاق شفاف.
• إنشاء «لجنة الحقيقة والذاكرة» وطنية (بمشاركة المجتمع المدني) توثّق الانتهاكات التاريخية وتقدّم توصيات للعدالة الانتقالية.
• حزمة تشريعات لشفافية التمويل الحزبي ومنع التمويل الأجنبي.
• برنامج تدريبي لموظفي الدولة (القضاء، الأمن، الإدارة) على مبادئ النزاهة والشفافية لمنع استغلال المناصب.
8. دليل اختصار/خلاصة: لماذا هذا المزيج مهم؟
• قانونيّاً: لأن الحظر المطلق على الأشخاص يجرّ أحياناً نتائج عكسية، أما نظام الفحص الموضوعي فَيحمي الديمقراطية دون تجريم جماعي.
• سياسياً: لأن استعادة النفوذ تتم غالباً عبر مسارات قانونية/ديمقراطية (أحزاب جديدة بشعارات وطنية) أو عبر شبكات مالية/ميليشياوية؛ الشفافية تمنع المسارين.
• اجتماعياً: لأن ثقافة العدالة والذاكرة تمنع استغلال ألم الجماعات وأحقادهم في بناء دعم عودات استبدادية.
9. ملحق تفصيلي — الخط الزمني (Timeline) 1968–2003 (نقاط رئيسية)
• 1968 (17 تموز): انقلاب حزب البعث في العراق وبدء حكم حزب البعث.
• 1979: صعود صدام حسين زعيمًا فعليًا للنظام (توطيد سلطة البعث حول شخصيته).
• 1980–1988: حرب إيران–العراق — استنزفت موارد الدولة وأطالت منطق السيطرة الأمنية.
• 1987–1989: حملة الأنفال ضد الأكراد؛ عمليات تدمير وتهجير ومجازر وثّقتها منظمات حقوقية.
• 16 آذار 1988: مجزرة/قصف حلبجة بالأسلحة الكيماوية.
• 1990: غزو الكويت؛ 1991: حرب الخليج وإخراج القوات العراقية، بداية عزلة دولية وعقوبات اقتصادية قاسية.
• 1990s: عقوبات دولية أثّرت بشدّة على الاقتصاد والبنى التحتية والخدمات.
• 2003 (آذار–نيسان): الغزو الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين؛ بداية إجراءات «إلغاء البعث» وإعادة ترتيب النظام السياسي.
(هذه نقاط مرجعية؛ يمكن تزويدك بملف زمني مفصّل يومياً أو سنوياً عند الطلب مع روابط لكل حدث).
10. مصادر أساسية (مراجع رصينة للتحميل والاطّلاع)
• Human Rights Watch — Genocide in Iraq: The Anfal Campaign Against the Kurds (1993).
• تقارير متعددة عن حلبجة (مقالات وملخصات الأمم المتحدة وتقارير حقوقية).
• ICTJ — A Bitter Legacy: Lessons of De-Baathification in Iraq (2013).
• تقارير إخبارية عن مشروعات إعادة توظيف وعمل تشريعات حول البعث (Reuters; CBS).
• Hoover Institution essay — الوثائق المسروقة/المسترجعة المتعلقة بسجلات البعث.
• مقالات تحليلية عن النفوذ الإقليمي (Guardian leaks; Carnegie analyses).
• مقالات تحليلية عامة حول دفاع الديمقراطيات ضد الاستبداد (Center for American Progress).