إن كان الأدب بمجمله يختط له منحى واقعياً أو رمزياً أو فلسفياً، فهو ينطلق من أرضية تفاعلية وتجارب انسانية، الباحثة عن لحظة التوازن والخلاص وصولاً لما يتيح للحياة بالاستمرار عبر الوصف أو التحليل أو التفسير لمجمل ما يندفع بقوة لتأهيل المشهد الذي ينتجه بغية الارتقاء بالمثل والرؤى والاكتشاف وصولاً للأفضل مرتكزاً على معطيات الجهد البشري في كافة مناحي الحياة علمية كانت أم ثقافية أم اجتماعية. ونظرة سريعة لما آل اليه العالم الأن مقارنة بما كان عليه بداية القرن الماضي سنجد أنه تغير، وما هو ظاهر للعيان يمثل حجم الجهد المبذول وصولاً إلى هذا التغيير على مستوى الطاقة واستخداماتها والغذاء والترفيه والخدمات والابتكار العلمي وفتح الافاق التي تحاول أن تنقل البشرية إلى مستويات أخرى غير معطيات الطب والصناعة والتعليم والعمارة وما يمثله كل نشاط متميز وبنفس الوتيرة فما هو غير مثمر كالجريمة والحروب والفساد ومن يمثلها هم أيضاً حسنوا من ادوات انتاجهم هذا لا يعني أن العالم يمر بمرحلة من مراحل الازدهار وأن الصعوبات تم تذليلها. فالحروب ما تزال تعصف بالبلدان، والسلاح من أكثر المفاصل المستفيدة من حركة العقل الذاهب إلى الأمام ابتكاراً وتطويراً، وثمة من يقول أنه لو لم تكن الحروب لما أتقن استخدام الآلة بهذه المهارة. لذلك لا أدعي أن الامور باتت بالكامل في دائرة العلم موجها ومخططاً استراتيجياً؛ بدل الافكار الكبرى والنظريات السياسية أو الديانات التي باتت تعاني عزلة واضحة كونها إن لم تكن مشاركة في تأجيج الحروب بل عاجزة عن إيقافها بما تملك من ذرائع وقيم تقدس الانسان الذي هو من وجهة نظرها بناء الله وتحترم جهده وفرصة وجوده، وبالتأكيد إن العلم والعلماء لا يمتلكون ما يمثل شمولية الرؤية أقصد أن ما يصلحونهُ هنا أو يضيفونهُ هو قابل لخلق مطب هنا أو هناك كناتج عرضي لم يحسب له حساب كونهم يعانون من مشكلة عدم كلية العلم. وما زالت الرؤية غير قادرة على الاضافة لكل ما حولها لذلك فالطاقة الأحفورية الآن واحدة من أعقد المشاكل التي تواجه البشرية رغم أنها عصب إنتاج كل تقدم بسبب ما ينجم عنها من تلوث أدى إلى إرباك النظام البيئي ووضع البشرية أمام تحدي مصيري ما لم تنجح بالحصول على بديل نوعي لا يقل بأدائه عن ما توفره وسائل تشغيل محركات الانتاج. إن لم تكن أكفأ مما هو عليه كل من النفط أو الغاز، على الرغم من أن التوجهات لتفكيك هذا القلق يأخذ مناحي عدة فضلا عن أن البشرية تعلمت عبر تجربتها مع النفط و الغاز والتي تجاوزت القرن من الزمن أن التعاطي مع الطاقة النووية لا يقل أذى عن ما يمكن أن يتحقق مع النفط والغاز. وتشيرنوبيل شاهد عيان وكذلك الحال مع طاقة الرياح أو الشمس لمحدوديتها وعدم كفاءة تخزينهما أمام ما أصاب الانسان من جشع وهوس لما هو عليه من إسراف.
هذا مثال تستطيع البشرية من خلاله معرفة ما يمثله التحدي والاستجابة، في محاولات العقل البشري لمواجهة مشاكلنا الحاضرة والمستقبلية. فما الذي يمكن أن يقوم به الأدب عبر أجناسه كافة مشاركا في بناء المشهد أو ترميمه، وهل أوكل للأدب يوماً دور الترميم أم هو معني بالخلق، على الرغم من أنه في مرحلة ما إنصاع لفعل الاجترار فعزز من انبعاث غازات خدرت الامة ووضعتها موضع احتباس حضاري كحال غاز الميثان الاكثر تأثيرا في حدوث الاحتباس الحراري جراء اجترار الابقار والاغنام لغذائهما العشبي. واللذان نحصد نتائجهما الآن وغداً.
ولأن الادب يعول كثيراً على عدم النسخ أو الاقتباس أو النقل. تجد أن المخيلة لديه تتسم بالنشاط قياساً مع باقي التفاعلات الاخرى في الحياة التي لا تتحرك الا وفق قوانين محددة. وبما أن الادب وجد نفسه كاسراً للقوانين ومجدداً لها بحكم كونه الاكثر تجوالاً وريادة للأفاق، لما يمكن أن ينفرد به من حرية. لذلك كانت المخيلة واحدة من ركائز اشتغاله، ومنذ البدء حين كنا نغفو على حكايات الف ليلة وليلة ونتيه في مفاجئات ما كانت تصغي لما هو منطقي أو قابل للممارسة كونه يتحرك في دائرة الادهاش واللامنطقي أدركنا أن محدثنا قد أعمل خياله، وتحرر من أرض الواقع إلى عوالم أخرى تصدمنا بمشاهدها. لكن بدا لنا حينها أن هذا الخيال هو محض خيال لا يتكئ على ما يمكن أن يكون قابلاً للمس أو التحسس، فهو محض خيال، غير ما جاءت به ثورة العقل المادي عبر الفتوحات العلمية حيث أنها لم يتسنَ لها الاحاطة بفكرة المنطاد واطلاقه ما لم تدرك أن المسافات البينية في عناصر المادة تختلف ما بين عنصر وآخر والحال ينطبق على الغازات بطبيعة الحال. وهذا يغير بشكل جوهري من شكل وحجم العناصر وكتلها واحجامها، فالهيدروجين والهيليوم أكثر خفة من الاوكسجين لتباعد المسافات البينية بين ذراتهما. ولو أمكننا عزل أي منهما في وعاء ما وتركناه وسط ما يعرف بالهواء المحيط بنا، لتسلق عالياً في داخله، إذن لدينا معطى يقر بحقيقة ما، أعمل العالم خياله فأبتكر لنا فقاعة وجدناها تتسلق في الهواء وحشرنا في سلة أسفلها لتكون وسيلة نقل عرفت بالمنطاد، أي أن المخيلة تحركت وفق معطى علمي. أما في الف ليلة وليلة تجد بنات الجان يمتلكن أجنحة ويتحولن إلى طيور كطيور الحب الملونة في فضاءات سعادتهن واحتراق قلوبنا، وهذا أمر مختلف، نعم هو خيال سطحي لم يتوغل عميقا لذك فهو لا ينتج لنا سوى الهلوسات والامنيات غير القابلة للتحقق. أما (ألون ماسك)* الذي يقترح زرع رقاقة صغيرة في تجويف الرأس البشري ليمكنه من تحقيق اتصال فوري مع مجموعة من منجزات اليكترونية مدعمة بالذكاء الصناعي لإدارة تحديات العصر القادم عبر مشاركة تفاعلية الغرض منها تذليل المزيد والمزيد مما يعترض طريق التحدي الذي كان وما يزال يعترض سبيل ما نظنه تقدماً.