السياسي مرآة جمهوره
منتصر صباح الحسناوي
يوماً ما، نظّمتُ ورشة عملٍ في مدينة الموصل تمهيداً لمؤتمر نبذ خطاب الكراهية الذي كنت أُعدّه ضمن برنامج عمل دائرة قصر المؤتمرات في بغداد.
كانت القاعة تعجّ بممثلي الأجهزة الأمنية وقائمقام المدينة وعدد من رجال الدين وممثلي الأوقاف.
ارتفعت الأصوات بين مداخلاتٍ متباينة، حتى قال أحد الحاضرين بوضوحٍ حاد:
نحن نسعى لنبذ خطاب الكراهية، لكنَّ السياسيين هم من يشعلون النار ويزيدونها وقودا.
نظرتُ إليه وقلتُ: السياسي لا يُشعل النار وحده، هو ينظر إلى جمهوره أولاً، فإن وجدهُ يصفق للطائفية صار طائفياً وإن وجدهُ يميلُ إلى الاعتدال صار معتدلاً مثلهم.
السياسي يسعى إلى الأصوات والأصوات لا تُكتسب بمخالفة الشارع وإنما بالانسجام معه.
أنتم من يصنع هذا الشارع وأنتم من يوجّه السياسي بما تقولون وتؤمنون به.
نعم، يمتلك السياسي قدراً من التأثير في توجيه العقل الجمعي، لكنّه في النهاية يظلّ جزءاً من هذا الجمع وأسيراً له بقدر ما هو ممثّلٌ عنه.
تذكّرت تلك الحادثة مؤخراً مع تصاعد الأصوات التي تعيد بثّ الخطاب الطائفي بين الحين والآخر، ظناً من بعض المفلسين سياسياً أنّ طريق العودة إلى الجماهير يبدأ بإحياء الخلاف، لكنَّ الواقع العراقي اليوم تجاوز هذه اللغة، لقد خَبِر الناس مرارةَ الانقسام وأدركوا أنّهم لا يكتملون إلّا باختلافهم وأنّ الاعتدال وحده يضمن بقاءهم معاً.
أنّ مشهد الانتخابات الأخيرة كشف وجهاً آخر من الصراع:
تزايد خطاب الإلغاء حتى صار أداةَ منافسةٍ لا أداةَ إصلاح وتراجعت البرامج الانتخابية لحساب المناكفات وصار المنجز "يُصغَّر" والعمل العام يُستهان به، حتى وصل الأمر ببعض الخطابات إلى التقليل من رموز الدولة ذاتها ومن الأعمال التي تمثّل مهابتها،
وهو مسارٌ خطِر في جوهره لأنّه يضرب فكرة الدولة من الداخل ويستبدل النقد الموضوعي بثقافة الهدم.
ورغم أنّ أثر هذه الموجة محدودٌ على المدى البعيد، فإنّها تبقى نهجاً خاطئاً يعكس أزمة وعيٍ في الطبقة السياسية، ويقترن في الوقت نفسه بمبالغاتٍ في الإنفاق الإعلاني للحملات الانتخابية وكأنّ السياسة صارت سباقَ صورٍ وشعاراتٍ لا سباقَ برامج ومشروعات.
ومع ذلك، وسط هذا الضجيج، ظلّ هناك ما يبعث على الأمل، خطاب اعتدال ومواطنة لكثير من محترفي السياسة ومشاهد التجمعات العابرة للهويات المذهبية في مدنٍ مثل الموصل وتكريت والديوانية والكاظمية … لم تكن صدفة، هي مؤشر مهم وعيٍ اجتماعيٍّ جديد يتقدّم ببطءٍ وثبات نحو القناعة بالمواطنة والمنجز بعيداً عن البعد الديني أو المذهبي أو العرقي وهذه التجمعات على الرغم من نسبتها البسيطة إلّا إنها مؤشرات مهمة على تعافي كبير من فيروس التطرف.
إنّ السياسي مرآةُ جمهوره، فعندما ينهض المجتمع بثقافة الاعتدال والمسؤولية، سيجد السياسي نفسه مضطراً أن يتحدّث بلسان الوطن لا بلهجة المذهب وأن يقيس نجاحه بقدر ما يعمل ويبني ويرسم من سياسات تخدم المواطن وتحافظ على مهابة الوطن، لا بما يشتري من أصوات .