الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رحلتي إلى براغ.. مدينة غارقه بالجمال والتاريخ

بواسطة azzaman

رحلتي إلى براغ.. مدينة غارقه بالجمال والتاريخ

حاكم الشمري

 

كانت رحلتي إلى جمهورية التشيك تجربة تفوق حدود السفر الاعتيادي، إذ وجدت نفسي في قلب أوروبا، في مدينةٍ غارقة بالجمال والتاريخ، هي براغ، المدينة التي تدهشك كل لحظة بما تختزن من سحرٍ إنساني وحضاري. جاءت زيارتي بدعوة كريمة من السفير العراقي في براغ فلاح الساعدي لإقامة معرضٍ فنيٍّ وسط العاصمة، حمل بين ألوانه روح العراق وتراثه العريق.

في القاعة التي احتضنت معرضي، تماهت الصور واللوحات مع نبض الحاضرين، وقد كان من بينهم عدد كبير من المسؤولين التشيك وأعضاء السلك الدبلوماسي. وقفت أشرح تفاصيل كل لوحة؛ عن حضارةٍ عريقة تمتد جذورها في التاريخ، عن آثار بابل ونقوش نينوى وبيوت الأهوار ومآذن الموصل. كان الحضور مأخوذًا بما يشاهد، وكانت الدهشة تضيء العيون وهي تكتشف عراقًا آخر، عراقًا يصنع الحياة رغم كل ما مرّ به. لقد لاقى المعرض ترحيبًا وإقبالًا واسعًا، حتى غدا مساحة لقاءٍ بين ثقافتين وحضارتين، ووسيلة لبناء وشائج تعاون ثقافي وفني بين العراق والتشيك.كان الفن هنا رسالة سلام وجسرًا حقيقيًا للتفاهم الإنساني، إذ حملت اللوحات صورًا من الذاكرة العراقية لتتحدث بلغةٍ عالمية يفهمها الجميع، لغة الجمال. ومن قلب براغ، شعرنا أن رسالتنا وصلت، وأن العراق، رغم أوجاعه، ما زال يرسل للعالم أنفاسه المضيئة بالفن والإبداع.

ومن بين زوايا الرحلة التي لا تُنسى، كانت زيارتي إلى المقهى الذي كان يجلس فيه شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري خلال سنوات غربته في براغ. هناك، في المكان العابق برائحة القهوة والذكريات، تتدلّى على الجدران صور المشاهير الذين مرّوا من هنا، وبينهم صورة الجواهري الكبير، كأنه ما زال جالسًا يحدّق من وراء الزمن نحو دجلة البعيدة.

الجواهري في براغ

في ذلك المكان كتب الجواهري رائعته “يا دجلة الخير يا أم البساتين”، القصيدة التي تُعدّ واحدة من أوجع ما كتب مغتربٌ عن وطنه. قال فيها:

وردتُ عيونَ الماءِ صافيةً نبعًا فنبعًا، فما كانت لترويني...

يا له من بيتٍ يختصر الوجع كله! فقد كان الجواهري يرى أمامه نهر الفلتافا في براغ، رقراقًا وجميلًا، لكنه لم يكن دجلة، ولم يحمل رائحته ولا ذاكرته. هناك، بين أمواج الغربة، كان يشرب الماء ولا يرتوي، لأن الروح كانت معلّقة على ضفاف الوطن البعيد.

جلست على ذات المقعد، أتأمل صورته وأستعيد صدى صوته، وأحسست أن بيني وبينه خيطًا من الحنين يمتد من دجلة إلى الفلتافا، ومن بغداد إلى براغ.

براغ ليست مجرد مدينة، بل قصيدة مرئية تُكتب بالحجر والماء.

 نهرها الفاتن، جسورها التي تشبه لوحات من القرون الوسطى، أبنيتها العريقة، كنائسها المهيبة، عربات الأحصنة التي تجوب الشوارع المرصوفة بالحجر، الساحات، الأشجار، الغابات... كل شيء فيها يوحي بالندرة والجمال. أما التماثيل المنتشرة في الساحات وعلى الجسور، فهي ليست حجارة جامدة بل أرواحٌ ناطقةٌ تروي حكاياتٍ عن الفن والإبداع والخلود.

خرجت من براغ وأنا أحمل في قلبي امتنانًا عميقًا لهذه المدينة التي احتفت بالفن العراقي، وفتحت له صدرها وقلوب ناسها. لقد كان معرضي هناك أكثر من فعالية فنية؛ كان رسالة ثقافية وإنسانية تؤكد أن الفن قادر على بناء الجسور حين تعجز السياسة عن ذلك. براغ ستبقى في الذاكرة لا كمدينة زرتها، بل كحلمٍ عشت تفاصيله، وكأنها قصيدة كتبها الجواهري، ومشى فيها الفن العراقي بكل ألوانه وهو يحمل رسالة الوطن إلى العالم.


مشاهدات 52
الكاتب حاكم الشمري
أضيف 2025/10/19 - 2:29 PM
آخر تحديث 2025/10/20 - 2:08 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 74 الشهر 13087 الكلي 12152942
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير