زياد الرحباني (مات ابنُ المحنة..المليء بعذوبة القلق)
شوقي كريم حسن
**مات زياد الرحباني.ذاك الذي علّمنا أن نضحك ونحن ننهار، أن نحبّ ونحن نخون، أن نغني ونحن نكفر.لم يك فنانًا فقط.هو مزيجًا من الحداد الصامت والمهرّج الذي فقد السيطرة على خشبة الوطن.الساخر الذي يشتم الحرب ويعرف أنه إبنها، والملحن الذي يرى في كل مقام موسيقي خيبةً سياسية.ولد زياد في بيتٍ يشبه الحلم العربي قبل أن يتفتّت:أبن السيدة فيروز، وعاصي الرحباني، لكنه اختار منذ البدايات أن يقول “لا”
لا للرومانسية المزيفة.لا للوطن المحنّط.لا للبطولات الكاذبة.لا للطائفية التي تخترق الأغنية والهوية والخبز.
**المسرح… حيث قال ما لم يُقَل..!!
منذ “سهرية” (1973)، كان واضحًا أن هذا الشاب لا يكتب للفرجة، بل للفضح.حوّل البيت اللبناني إلى مسرح للعبث الوجودي:حوارات باردة، هواجس طبقية، سخرية من النمطية، وانحياز للذي “ما بيفهم شي بس عم يعيش”.في “بالنسبة لبكرا شو؟” (1978)، قدّم عملاً خالداً.
بائع أرزّ مكسور، يعيش أزمة هوية، يقف بين العدم والانفجار،
ويطرح سؤالًا لم يجب عنه أحد: “نحنا شو؟”وفي “فيلم أميركي طويل”، تصير المقاومة نفسها مادة للسخرية…
ليس إنكارًا لقضيتها، بل فضحًا لمن يستخدمها.
**سياسي بالفطرة… وشيوعيّ بالاختيار!!
لم ينتمِ زياد لحزب، بل لحالة.
قال إنه شيوعي لأنه لا يحب الأغنياء، لا لأن البيان الشيوعي أبهره.
آمن بالفقراء، وخاف عليهم، وكتب عنهم، وعن أوهامهم.
في كل مقابلة، يحاول ألا يكون سياسيًا،لكنه كان أكثر السياسيين وعيًا.رفض اختزال الفن في شعارات، لكنه لم يتخلَّ عن الموقف.والموقف، عند زياد، لا يُصرّح به… يُلَحن.
**أغانيه… مقالات ضد الطغيان!!
في كل أغنية، كان يكتب نصًا ضد الكذب:
• “أنا مش كافر”: صرخة عقل في وجه القهر.
• “كيفك إنت؟”: خطاب حبّ سياسيّ، يعاتب الوطن أكثر مما يعاتب الحبيب.
• “ع هدير البوسطة”: مرثية لوطن قطّعت الحرب أوصاله.
• “بما إنّو”: انهيار هادئ أمام كل شيء.
• “كل ما الحكي بيطوّل”: اعتراف بفشل النخبة… وانتحار الطبقة الوسطى.
كان زياد يُغني لبنان الذي نعيشه، لا الذي نتمناه.
لغته: عاميّة فلسفية..!!
لم يتكلّم بلغة نزار قباني، ولا بلغة الرحابنة.
كان يحبّ البساطة،
يحشو الكلمات العامية بأسئلة وجودية.
ويجعل من النَفَس اليومي حوارًا مع الله، ومع الخيبة، ومع الطبقة، ومع السلطة، ومع الأم.
غيابه… ليس موتًا،،،!!
برحيل زياد، لا يغيب فقط ملحّن أو كاتب.
يغيب صوتُ قلقٍ طويل،
وغضبٌ بارد،
وغرامٌ لم يكتمل مع كل شيء.
زياد لم يطلب حبًّا من أحد.
كان يمشي في الهامش، لكن الهامش كان أوسع من المركز.
اختار أن يكون وحده،
لأن الجماعة كانت مخدوعة.
سنبقى نحكي عنه… كما كان يحكي عنا
لن ننسى ضحكته الساخرة، وهو يقول:
“هيدا البلد مش ماشي… بس نحنا ماشين فيه لأنو خلص، ما بقى في مطرح نروح عليه!”
سنشتاق لصوته.لارتجالك على البيانو.
لعيونه التي تُطيل النظر كأنها تقول:
ما تقولولي الفن بخدّم… الفن بيتعذّب.
: لا وداعًا زياد، بل وعدًا
وعدًا أن نبقى نغني أغانيك لا لأننا نطرب… بل لأننا نذكّر أنفسنا:
أننا عشنا يومًا في زمنٍ كان فيه فنان اسمه زياد الرحباني،
رفض أن يُربَّى على الأكاذيب،
وأصرّ أن يقولها بصوت مرتجف:
“أنا مش كافر… بس الجوع كافر.”
رحل زياد… لكنه ترك لنا موسيقى لا تموت،
كلمات لا تُنسى،
وغضبًا نبيلاً لا يهدأ.